الثلاثاء، أبريل 11، 2023

غادة سعيد سويد : حرائق الذاكرة

حرائق الذاكرة 
مذكرات
غادة سويد
كتبها روائياً: مصطف عبدي


الكتاب
: حرائق الذاكرة
الكاتب
: غادة سويد
الطبعة
: الأولى
اللوحة الخلفية
:
التنضيد الضوئي
:
التدقق اللغوي : فاضل حسان محمد
تصميم الغلاف

الاستشارة القانونية :




جميع الحقوق محفوظة 

2012

حرائق الذاكرة

دمشق /2001

الإهداء

رغم اختلاف المناسبات, وتداخل الحزن مع السعادة، والموت مع الحياة, وكما من باطن الليل يُبزغ الفجر, ستتوالدُ حياتنا من صميم موتنا, وستنمو سعادتنا في حقول أحزاننا.
إلى مَنْ فرّق القدر بيني وبينهم.
إلى مَنْ دمي يجري في عروقهم.
إلى مَنْ روحي امتزجت بأرواحهم.
إلى مَنْ أتمنى أن أراهم قبل أن أغمض عينيّ غمضتهما الأخيرة.
إلى رنا، ومرح، وزياد.

غادة سعيد سويد





حرائق الذاكرة
مذكرات
غادة سويد
كتبها روائياً: مصطف عبدي

الكتاب


:
حرائق الذاكرة
الكاتب


:
غادة سويد
الطبعة 


:
الأولى
اللوحة الخلفية


:


التنضيد الضوئي


:


التدقيق اللغوي
:
فاضل حسان محمد - تيار علي
تصميم الغلاف 


الاستشارة القانونية
:

:










جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

2012
حرائق الذاكرة

دمشق /2001
الإهداء

رغم اختلاف المناسبات, وتداخل الحزن مع السعادة، والموت مع الحياة, وكما من باطن الليل يُبزغ الفجر, ستتوالدُ حياتنا من صميم موتنا, وستنمو سعادتنا في حقول أحزاننا.
إلى مَنْ فرّق القدر بيني وبينهم.
إلى مَنْ دمي يجري في عروقهم.
إلى مَنْ روحي امتزجت بأرواحهم.
إلى مَنْ أتمنى أن أراهم قبل أن أغمض عينيّ غمضتهما الأخيرة.
إلى رنا، ومرح، وزياد.

غادة سعيد سويد
"آه، ما أقسى الجدار عندما ينهض في وجه الشروق، ربما ننفق كل العمر، كي ننقب ثغرة ليمرّ النور للأجيال....مرّة."
- أمـل دنـقل -
-1-
هواجس غريبة تلف سماء النفس، وانتصار للغة، يأبى التواجد أو الحضور، رفض كبيرٌ لأيام تتالت لتؤلف غداً يتتالى، التواجد بهيئة والتحايل على نفوسٍ تُحّمل بأكثر مما يمكن, فتكون النتيجة داءً بهيئة جمال مصطنع، فيه الكثير من المساحيق والرتوش.
غشاوة تُلفق بتفنينٍ دقيقٍ، لتصوير مأساة تجاوزت تشابك الأفعال.
اقتناص لتصرفات ما كان يجب أن تكونَ, واستجرار لأحداث قاسية سيّرت مجمل الرغبات.
القصة لم تبدأ من أي مكان وإنما انتهت في كل دقيقة من تفاصيلها، والمأساة تجلت في جميع أحداثها، واللعنة لفت المصير, تداخلت الأفعال مع المواقف، وابتعدت عن المنطق، فكان تحايلاً على النفوس ومكراً في النتائج، فلفت الغرابة الهيام.
كان غريباً عني، ومني! ولم أجد ذات لحظة مشاعر التحام، أو رغبة! فكما المكنة كنت أسير إليه.
ومرغماً كنت ألازمه أينما حل, وأتشبهه، فأمثل محبته وأصدقه الوفاء بعكسه، كنت أمرن نفسي ومشاعري على الاعتياد عليه، على التماهي ورغباته، دون أن يلقى طرقي (يطرق سمعي) أي صدىً.
أطفالي الصغار كانوا بعمر العصافير، لأجلهم كنت أدفن رأسي كما النعامة، فلأجلهم أعيش، فحياتي كلها رهن بربيعهم.
كلٌ يصارع جزءاً هاماً من وطنٍ، يرفضُ الاستسلام أو الانتصار، وتُسيّر الأمور حسبما يُشاء، فالدوامة لا تنتهي وبحر الألم تتسع أرجائه، لا النهاية نهاية ولا البداية بداية، فالاقتراب مصيبة والابتعاد مصيبة، والمصيبة لعنة لفت سماء الأحدا ث.
الهروب الكبير، إذاً، هو الحل لمشكلات بات وزن جُزئياتها يفوق حجم الاحتمال, ولكن الهروب يعني عودة، كما العودة كانت هروباً, وفي وسط كل ذلك لا يبقى إلا اختيار البقاء المُموّه بالرحيل.
ولكن أين هو الحل داخل هذه الحلول وحول تلك المصائر المرتسمة بهالات من الانصياع أو الرفض؟
وتبقى اللغة، كما يبقى العنوان، أشياء يمكن بها أو من خلالها تفسير ما لا يمكن الإيمان به, فتسير الحياة ونسير نحن، وتبقى كلمات الألم هي المسيّر الأصغر لتفاصيلنا المنهارة.
-2-
كثيرة جداً هي الأسباب التي تجعلني أسيرة لقلمٍ وأوراق، أعيش معها يومي، أتناول الفطور، وترتيب طاولة الغداء، وقضاء الأمسية مع وجبة خفيفة من الحواضر، وألف وجبة من ألم، ودفاتر وكمية هائلة من الاستعداد.
كثيرة جداً هي الأسباب التي جعلتني، أتحول من امرأة يهابها النهار، إلى بقايا إنسان فقد عنوان تواجده، ورسم البيان، واتخذ الليل شريكاً يتناوبان الحضور!
كنت مشروع ثورة من أحلام وعمل، وكانت لأيامي ترتيبها المختلف في ذاكرتي، ليس تجاوزاً للمنطق، أم المجتمع (؟) وإنما بالحد الأدنى منه.
خطأ واحد كان كفيلاً بتحطيم بقية أيامي، بأقلها أو أكثرها، خطأ كضربة قاضية من على حلبة الحياة.
فقبل هذا لم أفكر، يوماً، أن اتخذ درب الكتابة طريقاً، أو أن استنشقه صبراً، كنت أعيش الأدب زاداً للاستمتاع، ولم أعش فكرة أني أقرأ تاريخاً على الورق.
إنها المحاولة الأولى لي، وما كنت  يوماً أتجرأ على خوض غمار الكتابة، وتخطيط حقولها، فالأدب كان بالنسبة لي عالماً آخر، أنظر اليه من باب التلقي، والاستمتاع، وملئ أوقات الفراغ، وجر الساعات إلى عقاربها. لكن الذي حدث كان يفوق قدرتي على البقاء حيث أكون، أو الصبر، فلم أجد إلا مساحة الورقة مسرحاً، أنتقم فيه ممن أشاء، واسترد فيه ما فقدته.
ستقرؤون عناويني في محطات الانتظار في قطار قادم، أو في حافلة، أو سهرة عابرة، أو مقهى، أو صفحة الكترونية، وستمرون عليها مرور الكرام على عجل أو تمهل، باكيين أو مبتسمين. ولكن أقلكم من سيمكنه أن يقرأ ذاكرتي التي تحترق على الورق  أو رؤية دخانها الصاعد من أحضان الجمل.
لست أنا التي تكتب هنا، وإنما أفكاري هي من تتزاحم متصارعة، فتتدافع في تمازج واستطراد، لست أنا من تكتب بقرارة نفسها وإنما هي حالة تعاظم الألم، وحالةِ الصدِ الآخر، والمزج المتداخل والقيمة.
يئست ذاتي من ذاتي، وفاضت نفسي من نفسها حتى كان كل الذي سيكون.
بالله عليكم، تيقنوا أنها ليست مجرد خربشات لامرأة، ترغب في قراءة اسمها على كتاب مطبوع في معارض الثقافة أو المكتبات. لا يا أصدقاء، إنها قصة الأيام، وحكاية الألم، الذي استشاط شذراً في جسدي، واحتراقاً في ذاكرتي.
-3-
كنت قريبة جداً من حافة الدمار, وكانت الأفكار ترمي بي إلى كل الاتجاهات. حتى احتل كياني اسم "حرائق الذاكرة " والتي هي أنا.
يصعب أن أجد مفراً من سطوة الكلمات وتوليدها، فقد اكتمل العقد وحانت ساعة البوح.
(غادة) ابنة لفظها القدر، لأب محب. متصرف لدرجة الاستبداد، وأمٍ -كما كل أمهات الكون- بريئة جداً، حنونة فوق العادة. 
نبيهة. رقيقة. طيبة. رؤوفة. كثيرة الحب. وُلدتْ عام النكسة (1967). يومها بكى العرب حاضرهم والتاريخ، وتم توقيع صك ضياع فلسطين، فبكتني أمي روحاً، ورمتني إلى حضن الحياة مصيبة، من دون هوية، أو انتماء، أو أرض.
يومها ماجت جحافل اليهود في تراب وطني، واستباحت مساحاته.
فلسطين في القلب متحدة. محررة. وليست شعاراً ينطق به كل قائد عربي، ويتخذها عنواناً للعروبة.
فلسطين جُرحٌ نازف، وألف قصيدة ألم وبكاء، ومعتقلات، وشهداء.
باسم القومية اغتالوك قصيدة قصيدة، كلمة كلمة، حتى أصبحت في فلك كل قائد عربي شعاراً يعلقه في صدر قاعة مؤتمراته ومؤامراته.
(غادة) من صفد، صفد مدينة الغزوات، وطبريا، وبيسان، والزلازل، والزيتون، عاصمة الجليل، ضحية  الصداقة بين الغرب والشرق.
صفد مدينتي التي يسيل دمها في عروقي، أحسها تسكنني وإن لم أسكنها يوماً، أو أزرها.
أعيشها في أنفاسي، وذاكرتي البعيدة، حيث كان تاريخ العائلة، وقصة البداية.
فهي الحبيبةُ وكلُّ ما فيها جميلٌ، جميل.
أنظرها كأميرةٍ تختالُ في حضن الجليل، وقلادة في صدرِ كل مشتاق مُبعد.
استرقت ذاكرتي عنها من أحاديث الأهل أيام السهرات،  ولم أعشها، فقد هاجر أهلي عن أهلهم من تلك الديار قسراً،
في رحلة ما تزال رحاها دائرة. قد ولدتْ بدم مهاجر، فحتى الحي الذي لامستْ تربته لحظة الولادة كان بصفة القضية، ورمزية القصة، (حي المهاجرين)، فعلى الرغم من رقي وجوهِ سكانه، وأناقة ترتيب بناياته، إلا أنك تستشف من خلال الإمعان في التطلع، رحلة لا تنتهي، وفقداناً لمعنى التلاحم، فللاسم مغزًى، كما هي أسماؤنا لها تاريخ في الدلالة والتفسير.
وهنا، أيضاً، يوجد للفقر معانيه الصريحة بل طريقته في التقسيم، فكلما ارتفعت في الجادات يزداد الفقر، فيما الجادات الأولى يسكنها الأغنياء، بل أن بيوتها هي الأغلى سعراً، بينما ترى البيت الأخير بلا شبابيك، وقد التصق بالجبل، فجعل أحد جدرانه متكئاً عليه، فكلما امتد بك الصعود كلما كنت أفقر، وكلما كنت آخر المهاجرين.
-4-
ينحصر لفيف الأيام في أصداء التفاصيل, وتكوّر العوالم، وهي رافضة الانزياح، ويلهب الألم رياحين اللغة, وأنا في بحر كل ذلك الهياج المقيت والغموض الملفق أغوص, ولا أدري إلى أين؟ الصور التالفة تتجمع في شظايا الذاكرة بمحاولة لإعادة التواجد, فتكون الولادة, وتكون معها اللعنة وسوء الطالع, هياج لزمن يأبى أن أتواجد ببراءتي فيه, ورفضي المُقنع بلغة القبول, إذاً تم الأمر بقرار اختُلف عليه بداية.
(غادة) أولى الحفيدات لعائلة حميد، وعلى ما يظهر فإن والدي كسر قاعدة القدر يوم ولدت، فجدي لم ينجب إناثاً، بل أولاداً ذكوراً فقط. وعددهم خمسة، أكبرهم والدي رشيد. وهو أول من تزوج بين أخوته.
خلاصة الأمر أني البنت التي سوف تقع عليها جميع التجارب. ربما كنت فأرة تجارب هذه العائلة.
كبرت هناك، في ذات الحي وأزقته، يومها كانت الأمور أقل فوضوية، وبجمال أتذكر المدرسة التي تلقفت فيها أولى الحروف والكلمات، وفيها استطعت أن أتجاوز حد أن الكلمة ليست صورة، وإنما هي حركة وتعبير.
(لبنى الأندلسية) كان اسم مدرستي المختلطة، وكانت تركن في قبو إحدى البنايات القريبة.
ذات المدرسة تحولت إلى ملجئ في أيام حرب اكتوبر 1973.
كنا أسرة متحابة. متفقة، على عادة أغلب أسر الحي.
كنا ستة. ثلاثة صبيان، وأنا، وأختي، وأمي.
ذاكرتي قادرة على تصوير كل موقف، وسهرة، وتصرف، إلا وجود والدي، فلا أجد له فيها أي فضاء، فقد كان يسكن في الخليج موظفاً. كانت لي علاقة عضوية ببيتنا، فكل زاوية فيه كانت لي ذكرى فيها، كيف لا وقد ولدت فيه وترعرت؟!
ليست الأماكن كلها بذات الأثر الانفعالي في التأثير
بالمشاعر لدرجة الارتباط، أمكنة الطفولة كنت أعيشها وكأنها جزءٌ من ذاتي، وكل زاوية من منزلنا، ومن الحارة، والمدرسة كانت لها وقعها، بحيث كان يستحيل أن أفكر في مُغادرتها، كذلك كان الأصدقاء.
بيتنا كان جزءاً من نموي وأصدقائي، نلعب معاً، ونكبر معاً. نتسع، ونستطيل في مد العمر وجزره. البيت يرتبط دائماً في ذاكرتي باللعب، والحارة. 
كان اللعب سمة أوقاتنا، نقضي نهارنا به، ونعود مساءاً وقد أنهكنا التعب، ننتظر دقائق حتى تأتي أمي مع توبيخة ناعمة، لتغير ملابسنا، ونغادر للنوم منهكين ونحن ننتظر صباحاً آخر، ويوم مدرسة، ولعب آخر.
اللعب ثقافة أخرى ومتعة، وخاصة مع الرفقة، التي تتحدث كل يوم، بأصدقاء جدد، وصديقات. حتى تختار منهم ما يوافق ميولك، ونفسيتك، وهي أولى مراحل الاختيار.
كان لي أصدقاء كثيرون، ومذ التحقنا بوالدي في دولة الإمارات لم أعد على صلة بأي منهم، واختفوا جميعاً من حياتي، وهكذا ضاع أصدقاء الطفولة. كنت أعيش طفولة طبيعية في أسرة متفاهمة، كنا نملأ شوارع الحي صخباً. كانت لنا حريتنا في اللعب، فلن يقول لنا أحدٌ حاذروا السيارات والغرباء، فأكثر ما يحبه هؤلاء الناس هم الغرباء مثلهم. كنا نحفظ هذه الفوضى المكانية وندخل إلى حارات لم نكن لنتصور وجودها، فجأة نجد أنفسنا في مواجهة الجبل الأصم.
كنت مرحة جداً بجمال الأيام، وأكبر برتابة، كأية طفلة تعيش من اليوم كله، مع الوقت كانت مداركي تتسع، وأسئلتي إلى أمي تكثر.
كنت الأكبر، وفي ذلك كانت مشاعري أيضاً أكبر.
في المدرسة كانت متعة أخرى، فمع كل رنين للجرس كان غنائنا يتنغم، وكانت لمدرسينا علينا ثقافة، وتقدير ما فوقه تقدير.
ما زلت أتذكر حصة الرسم، ورغم بساطة علومها إلا أني كنت أغادر محيط قاعة الفنون إلى فضاء تصنعه مخيلتي حيث كنت أنفرد في التأمل وابتداع ما تجود به ذاكرتي من تخيلات، وكيف أنسى الدهشة التي رسمتها لوحتي على وجه معلمتي يوم سلمتها عملي في نهاية الفصل، حينها لم تصدق، ابتسمت بعمق ومسحت شعري بعبارة رضى وتفاءل بغد مشرق لي، لقد كانت تحتفظ بكل ما أرسمه وكأنها من أعمال فنان مشهور أو هي أعمال فائقة. وأيضاً أتذكر حصة الرياضة، يوم كنت أوقفهم صفاً واحداً، ونتفق على شروط اللعب، فقد كنت صمام الانضباط لهم.
عالم الصداقة عالم رحب جداً، وخاصة لفتاة حساسة مثلي، حيث كنت غيورة جداً، ومجتهدة، أواظب على كامل فروضي المدرسية بأناقة وألوان وتسارع، للخروج إلى اللعب والأصدقاء والجيران. فحياتي كانت مقسمة دونماً، ترتيب مني بين المدرسة والمنزل والشارع وما بينهم.
أحياناً كنت أخرج مع أمي في عادة التسوق، كنت استمتع بذلك، فاستبق والدتي بالاستفسار عن سعر هذه الفواكه، أو جودتها، وأتذكر أني دخلت في مساومة السعر مع تاجر ألبسة، يومها أعجبت جداً بكنزة زهرية اللون، مكشوفة الكتفين، رغم صغر سني، حذرتني أمي من ذلك وأن مثل هذه الثياب لا تناسب ذوقنا العام. كان تطبيقاً للشريعة، وإنما بعمر الزهور، ولكن أمي لم تستطع منعي من ارتداءه  في الحلم  في المساء ذاته.
ويوم سكنت الحرب البلد، لم أحزن إلا لأجل مدرستي، والتي تحولت إلى مكان إيواء، وأتذكر أن كل شيء حولي قد تغير، إذ اختفى أصدقاء الشارع، ومن خلال ثقب الباب كنت أتفحص حضورهم كل يوم.
-5-
تتدفق خلايا الذاكرة وتتأهب في نشاط واستثارة، في محاولات لإعادة التركيب وتدقيق ماضي الأحداث، فترتسم الصور وتتراكب مجدداً، لتتم الولادة التالية متأخرة.
أبعاد الشعور تتطاول وتشع خيوط وهجه، فالمعرفة قليلة والشقاء كبير، ليتعاظم ألم غروري أكثر ويغرقني في أفكار أتناقض وإياها وتسيرني.
عام 1975 كان القرار الذي رفضته ولم أفهم كنهه، هو أن نغادر الوطن، باتجاه دولة الإمارات للالتحاق بوالدي، لم أدرك اعتبارات ذلك، ولكن ما أعلمه أني تألمت جداً من هذا الانفصام القسري بيني وبين الأماكن، بيني وبين الأصدقاء والجيران.
مع كل زاوية ارتفاع عن الأرض، كنت أشعر بأن نفسي المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأرض ستخرج من نفسها، ومع كل ابتعاد عنها كنت أتابع اقترابنا لصفح السماء.
أخبرت أمي أني أكره السكن في السماء، وأرغب بالعودة إلى الأرض.
ضحكت:
سنعود قريباً يا صغيرتي، ولكن في النهاية ستكون السماء مأوانا جميعاً!
-6-
في المدينة الجديدة كان كل شيء مختلفاً، حتى على سبيل أسرتنا، فقد أصبح لنا فيها وافد جديد دائم الإقامة: والدي، وما نتج عنه من تبعات، لأننا لم نعتد وجوده معنا.
الحي الذي سكناه كان شعبياً، بيوته صغيرة، ومنزلنا كان بغرفتين وصالة، جداره من الإسمنت، وسقفه من الخشب تسمع كل حركة فوقه وتحته، ماءٌ مالح، حرارة عالية، جنسيات مختلفة، من حسن حظي كان هناك جارة لبنانية طيبة القلب، صارت صديقة لنا، ومازالت كذلك إلى الآن.
التقيتها آخر مرة صيف 1999. أذكر أنني زرتها في البيت، وقد آلمني منظرها كثيراً، فقد كانت مصابة بمرض الشلل الرعاشي. لم تكن كذلك من قبل بل كانت امرأة صلبة، متماسكة، ربّت ثمانية أولاد.
في بادئ الأمر كانت ذكرى منزلنا، وأصدقائي، وحينا في المهاجرين تشغل ذاكرتي بإلحاح، فقد كنت أتصرف وكأني هناك، لذا كثيراً ما كنت اصطدم بعوائق معتبرة.
نعم… رغم أننا في حينا بدمشق كنا أيضاً مختلفين، ومتنوعي الانتماء، لكني هنا قرأت فروقات كبيرة وتمايزاً أكبر. هنا لم أستطع أن أقرأ أية مشاعر أو حميمية، فليس للياسمين هنا من معنى، ولا تشكل تحية الصباح أي قبول، ليس من حديث مع صاحب البقال، أو الجيران، الكل منهمك بعمله، ولا يبالي بشيء.
تسارعت الأمور في (الإمارات)، فأصبحنا وأصبحت رحلة الهجرة متلازمة معنا، ومن إمارة إلى أخرى، كل ذلك كان يؤثر بشدة عليّ، وعلى قدرتي على التأقلم مع كل حالة هجرة، وإعادة البدء بصداقات جديدة، وصناعة عالم سريالي يخصني، ومع ذلك كانت رهافة حسي تتزايد، وكان تأثري بالوسط يكبر، وبالطبيعة التي بالكاد يمكنك مشاهدتها، لكني كنت أمتزج باللون، والسماء، والحركة، ومع كل دراية كنت أرسم في مخيلتي مختلف الحالات والمواقف، حتى كان أن اقتنيت أدوات الرسم من متجر قريب بالمصادفة، ومساءً كانت لي رحلة في ترجمة تجارب ما مضى على اللوح، وكانت تلك التجربة الأولى لي، والأهم من كل ذلك أني كنت أصبح أكثر سعادة يوم أنتهي من رسم مُتخيل أو حقيقي، بعد ذلك بات لمكوثي الطويل في المنزل نكهة مختلفة، وقد تجاوزت قصة الأصدقاء إلى الاكتفاء بالعيش في عالم اللوحات.
التأثير التحكمي الثاني بعد مسألة فرض الهجرة مارسه والدي، يوم قرأت اسمي في قائمة الطلاب المسجلين بالصف العلمي، لم يستشرني، أو يخبرني، كان قد فكر وقرر وأنا من يجب أن تنفذ.
اختار والدي أن أدرس الفرع العلمي بخلاف رغبتي إذاً – امرأة الطاعة والتجارب- ورغم محاولاتي اليائسة، وطلب وساطة والدتي وأخوتي ومن يعز عليه إلا أن كل محاولاتي باءت بالفشل أمام صوانية إصراره، على أنه الأدرى بميولي، ومستقبلي، وكأنه سيعيشه. رضيت مُكرهة، وتابعت تعليمي بائسة، لا أجد إلا مرسمي ساحة أخرى فيها غادة حرة، تفكر، تقرر، وتنفذ.
يوم نجحت في تجاوز المرحلة المدرسية بالحصول على الشهادة الثانوية العامة ، عام 1986 من إمارة الشارقة، وبمعدل متوسط، سُعدتُ جداً، فقد تخلصتُ أخيراً من واجب أُكرهت على تنفيذه، فكان خيالي يجنح بموهبة نحو متابعة تعليمي بكلية الفنون الجميلة، ولم أكن أتصور أن يجابهني مانع، خاصة أنه فرع تخصصي للإناث، وقد كنتُ أعشق كل شيء له علاقة بالألوان والموسيقى والتصوير.
لكن كان لمصيري تفسير آخر من قبل سعادة والدي، لأنه كان يرسمهُ لي وعني بالنيابة، فقد كان يرغب هذه المرة في أن يكون مُعدلي عالياً يؤهلني لفرع هو يختاره، لكن الذي حدث أن جامعة الإمارات لم تقبل طلب انتسابي، فمعدلي كان أقل من المطلوب كطالبة أجنبية. 
وهنا لم يتبق أمامي إلا فرصة أخيرة وهي أن أتابع الدراسة في جامعة دمشق، فهكذا كنت أفكر، ولكنه رفض ذلك رغم توفر الظروف السانحة، فنحن ما نزال نمتلك منزلاً في دمشق يسكنه أخي حيث يخدم العَلَم هناك.
أمام حالة الصد هذه والندية، لم أجد إلا أمي ورقة وساطة وشرح، علها تقنع والدي بذلك. كنت أناقشها طويلاً في هذا الموضوع، إلا أنها كانت تختلق له الأعذار والمبررات، وأحياناً كانت تُحملني المسؤولية لأنني لم أحصل على معدل عالٍ، وأحياناً أخرى تدّعي بعدم وجود من أسكن معه في دمشق، وأن البنت لا يصحُ أن تكون بعيدة عن أهلها، والمزيد من الحجج غير المُقنعة وحائطٌ من أعذار الصد الإضافي. ولكنها ولا مرة صرّحت بحقيقة موقف والدي من انتسابي للجامعة، وهذا كان السبب الحقيقي، فوالدي لا يرغب في إبعادي عنه، أو تمردي على مخططاته، وهو لا يرغب في أن يترك فأرة تجاربه تبتعد خارج حدوده، فعلى ما يبدو أن لديه تجارب أخرى.
هذا ما ثبت بالوقائع التي حدثت في الأعوام التالية، فأختي صادفتها نفس الإشكاليات ووافق والدي على الفور بالسماح لها لمتابعة تحصيلها العلمي في دمشق، وفي كلية مختلطة، فيما كنا ما نزال نسكن الإمارات.
سؤال دائم الإلحاح في ذاكرتي، ومواقف لا أستطيع تبريرها
لماذا رفض والدي أن أختار الفرع الذي أرغب؟
لماذا منعني من متابعة الدراسة في دمشق؟
لماذا تدخل في رسم تفاصيل حياتي كما يرغب، من دون أن يفسح لي فرصة الاختيار، أو حتى الاستشارة؟
أكان يعتبرني نسخة عنه، أم هو نمط من النرجسية في التملك، أو حب ممارسة السلطة والقوة؟
أحياناً كنت أذهب أبعد حينما أفسر تصرفاته نحوي بفقدانه الثقة بي. الشيء الوحيد الذي أنا متأكدة منه أن هناك فرقاً بين شخص وآخر. أنا لست نسخة عن أحد ولا حتى عن أمي.
ربما هي الدكتاتورية، أم أني فعلاً فأرة تجاربه؟
وأمام قوة رغباتي، وصرامة مواقف والدي، أصبحت أمام أحد خيارين: إما أن أعيد الثانوية العامة، وأحصل على معدل أفضل يؤهلني لدخول جامعة الإمارات، أو أن أقبل بطرح والدي، وهو أن ألتحق بمدرسة التمريض.
جامعة الإمارات هي أكثر الجامعات مناسبة لعقليته فهي مثل غالبية الجامعات في دول الخليج، ليس لها أي علاقة بشيء اسمه الاختلاط بين الجنسين. إضافة إلى أنها تخضع لقوانين وشروط خاصة بالدولة. أما بالنسبة لمدرسة التمريض فقد كانت تلك هي الدفعة الأولى والتجربة الأولى، لذا فإنهم كانوا يقبلون معدلات أقل ومن أي فرعٍ كان، متجاوزين الجنسية: فأرة تجارب مرة أخرى. 
لعل الهدف من ذلك كان تشجيع بنات الإمارات على دخول عالم التمريض وتغيير نظرة المجتمع، فالمستشفيات بحاجة للممرضات العرب، وأغلبهنّ كنّ -وقتئذ- من الجنسيات الآسيوية، ولا يتحدثن العربية. إذاً انتسابي لهذه المدرسة في ظاهره شبه اختياري، ولكنه في الحقيقة إجباري.
أحببت والدي كثيراً، وأحببت تفانيه في توفير أفضل سبل العيش لنا، لكني انزعجت من تحكمه الأعمى الذي مارسه بحقي متجاوزاً فكرة أني فتاة لها خصوصيتها، وتفكيرها ونظرتها للحياة والمستقبل.
في مدرسة التمريض كانت الأمور مختلفة والظروف صعبة، فعلاقتي بالدم سيئة، وهذا المكان لا يناسبني على الإطلاق، أحب الألوان، والموسيقى، والتصوير، وليس الدماء، والكسور، والمرضى!
كان كل يوم دوام لي في المعهد بمثابة تنفيذ عقوبة، وقد عانيت من أعراض جانبية، إقياء، والصوم عن تناول الطعام، والكوابيس ليلاً، ولم أجد بداً إلا حينما طلب مني تنظيف جسد رجل مصاب، ليدفعني ذلك أن أقرر دونما تراجع أن أترك هذا المعهد إلى غير رجعة، وكانت حجة قوية أيضاً رميت بأوراقها أمام والدي، الذي استشاط غيظاً، ويأس مني. 
مرة أخرى أصبحت أعيش في فوضى الاختيار، وغياب الفرص، لذا بدأت في التفكير بالبحث عن عمل، إلا أن فكرتي مجدداً جوبِهت برفض والدي، بذريعة أن عمل الفتاة مرتبط بالحاجة المادية هنا، ودخلنا ميسور.
وبتجاوز الذريعة إلى السبب الحقيقي الذي كان في كواليس ذلك، فوالدي لم يقرر مصيري بُعيد فشل مخطط دراستي في التمريض، وتجاربه لم تنتهِ بعد، لذا فهو الآن في حالة توظيف أخرى لفتاته المُطيعة، وأي تمرد من قبلي لإيجاد مخرج لن يكون مسموحاً به. هذا عدا أن والدي ضد الاختلاط بين الجنسين، وهذا ما يمكن أن يوفره عملي إذا تم.
ليست الحياة سوى حالة مُزدوجة، والرجل والمرأة فيها صنواها، ومكوناها. وأي عزل أو إقصاء لأحدهما ستكون نتيجته عملاً غير طبيعي، بل وفاشل.
هل غادة هي ملك لوالدها الذي قرر عنها كل الاشياء؟
إلى متى سيكون مصيري مرهوناً بما يرغبه؟
وأمام احتدام الخلاف، ولجوئي إلى العصيان المنزلي، والاعتصام حتى منحي حرية أن أقرر ولو جزءاً يسيراً من حياتي، قَبِلَ والدي أن أعمل بمجال التدريس في حضانة للأطفال. تلك كانت فرصة حياة مختلفة بالنسبة لفتاة ما عاشت إلى الآن يوماً من الإرادة والأمنية.
 وإنه حقاً عالمٌ رائع، هناك كانت إحدى أجمل محطات حياتي، وعدت فيها إلى زمن الطفلة المَرِحة، التي كان العالم لا يتسع لصدى ضحكاتها.
-7-
"إذا لم تكن تعلم إلى أين تذهب، فكل الطرق تفي بالغرض"

يا للروعة والتناغم! ويا لجلال ما ستصبح عليه حياتي! أتراها ستكون أفضل حالاً وجمالاً, أم أنه الألم المنتظر في تفاصيل الغد, والذي بالكاد أقرؤه، ولكنيّ رغم ذلك أعيش انتصاراً مُختلفاً بريشتي ولغتي، اللتان تأبيان القبول في تحدٍ صارخ؟
ما كان يجب للقرار أن يتم, فهي أصغر من أن تكون زوجة، وربة أسرة، وأم لأطفال، إنها حياة أخرى يمكن تأجيل إعلانها قدر الإمكان، قرأت ذات مرة من إحدى الروايات "أن الإنسان لا يجب أن يتزوج إلا إذا أحس أنه لم يعد ذا نفع" وهي في حروبها المزدوجة مع أسرتها ومع نفسها لم تكن مستعدة لإضافة طرف ثالث.
ولكن أتراها كانت تمتلك مفاتيح القرار في ذلك، أو تجنب حدوثه؟
إنه الواقع إذا، وهو الشيء الحقيقي الوحيد. وأنا المحترق (ة) بينهما، سأظل أرسم تفاصيل الألم ودقائق الحزن سأظل بأناقة أسطر هول حديث تصارعمها المتتالي, سأبقى أكثر معها لأنها الأشد ألماً والأكثر شعوراً وأخاف أن أفقدها في لحظة طيش.
نعم إني الآن أعيشهما بروح ثالثة هائمة ماجت بينهما، روح الأطفال الثلاث(رنا، مرح، زياد) فأنا هم، وهم أنا، ولا ثالث بيننا.
صدى كلمات ثلاثتهم يتردد:
لم نكن نرغب بالولادة على هذا الفرض، بروح هائمة لا تعرف الهدوء نظل في حالة جوع لحنان الأم، وهمسة الأم، ولمستها.
كم نحتاجك أمي، لنعيش معاً ونعوض كل الذي أصبح وكان!
كم تحتاجيننا أمي، لتربتي على كتفنا، لتقبلينا قبل النوم، لتغطينا، لنشرب حليب الصباح، ونخرج في نزهة المساء، وتختاري ما نلبسه، وتعلمينا فروض الحياة، وأدب المعيشة!
للأم لغة خاصة لا يحسها إلا من تجرع قارورة لحن فقدانها، وهنا المصائر المتلاعبة بداء الغموض ستتشرب كثيراً من تلك المعاناة, طريق معبدة بآمال متساقطة، على شاكلة زهر اللوز المرصوف. 
إذاً إنه ذاك القدر الذي يجعل من ترتيب الأحداث واقعاً لا يمكن تجاوز هوله.
هكذا تقول أوراق البخت, وهكذا ستتلون الأحداث التالية, وما أراهُ أكثر مما أستطيع قوله والآن حان الأوان أن أغادر.
-8-
في إحدى جولات التسوق، حدث تخاطر بيني وبين شاب عابر برفقة أهله، كانت الأم تنظر نحوي بشكل غريب، لقد أُعجبت بي على ما يبدو، ورمتني بشباك صيدها كعروس لابنها.
في تلك الفترة كنت أحاول قدر الإمكان تنظيم وقتي لبداية أخرى، صحيح أن وظيفتي في روضة الأطفال كمدرسة تبهجني، لكنها كانت عملاً مؤقتاً، وأنا طموحي كان يتجاوز أن أبقى فيه، إلى رغبتي الشديدة في متابعة تعلمي الجامعي، بفرع تخصصي. لكن الطارئ الذي زلزل كامل حياتي ومستقبلي كان بفعل كبير، فمشروع أن أتزوج ما كان خاطراً في بالي، لذا رفضته على الفور يوم تم عرضه عليّ، دون أن أفكر في الأمر حتى. وفوق حيرتي أصبحت أكثر ضياعاً وقلقاً:
غادة، ابنتي، لقد تقدم مجدداً يطلبك زوجة، وأنا قد قررت أن أعطيه قرار القبول. ابنتي، إنه رجل صالح، وهي عائلة غنية، لها مكانتها. يابنتي الجميلة، إنهم طيبون، من طينتا، أمه إنسانة تقية، ويناسبوننا.
الجميع قد أفتى بي زوجة إذاً، ووافق على إدخالي لتجربة أخرى، رغم أنها جاءت في غير وقتها، فآخر شيء كنت أفكر به هو أن اتزوج.
لكن، وبتأثير موافقتهم جميعاً، وباعتباره الزوج المناسب لي، ومن ناحية أني أردت أن أجد ما يمزق صمت أيامي – لذا، فكرت في أني سأتمكن، من خلال هذه الخطوة، إيجاد نفق للعبور إلى حال أفضل، وأكثر مغامرةً.
الأمر برمته جاء مفاجئاً، وأستطيع تصنيفه ضمن فكرة: إنه كان حالة طارئة بدأت تتشرب برغباتي، أو أني به أردت الهروب من سوار العائلة والإملاءات وقيود المحيط، وتجاوز سطوة الممارسة إلى فكرة الانعتاق.
هذه الهواجس بدأت تتلبس قرار موافقتي، رغم أني قبل هذا ما كنت أفكر بها أو أعيشها، فقد كنت أصارع لأكون بانية ذاتي في إطار العائلة، أستخلص منها ما أستطيعه من ميزات.
تلك أسباب دفعتني لأقتنع بفكرة الزواج، لكن لم أستطع بناء قاعدة معرفية حول تفاصيل ذلك، أو أن أفكر بنضج أكثر  في الزاوج من شخص بالكاد أعرفه، لم أفكر في أني قد أدفع ثمناً باهظاً إن أخطأت القرار.
هذه المرة تنحى والدي جانباً بعيد إرسال رأيه، ولن أستغرب الأمر لأنه بشكل أو بآخر جاء منطقياً، ضمن ما كان يخططه لي.
-9-
سيزوروننا غداً مساءً، وعلي أن أتميز، فهي المرة الأولى التي سألتقي فيها بشاب ضمن حرم العائلة، وبمباركتها.
عليّ أن أكون دقيقة في المظهر وأن أختار شيئاً خاصاً, ولكن كيف؟ نعم سأختار هذا، إنه اللون السماوي الذي أفضله, سأكون فيه أجمل، ولا أدري لما أحس بأن الغد سيكون مختلفاً رغم أنها زيارة تعارف ليس أكثر.
كان لقاءاً عائلياً رسمياً، بالكاد استطعت تميزه عن الحضور، وطرحوا رغبتهم في التقارب، من خلال طلبي كعروس.
لا أخفيكم سراً أني من خلال أول تجربة رسمية بدأت أشعر بخطأ المتابعة، وأنه ليس الشخص المناسب لي، فلست التي تقبل الأشياء هكذا, كان يجب أن أبتعد, فما أحسسته كانت مشاعر آنية، فتطبعي خاص وتكويني دقيق، ولا يجب أن أتمرد على ما سيرت به أيامي، لكنها الرغبة، بل لنقل إنه الفضول والإعجاب بالفكرة.
أعلنت موافقتي، دون أن أدرك حجم ذلك، فقد كنت أعتبر  المسألة في طور التجربة، وأمامنا أيام الخطبة، وهي فترة تعارف، وليس لزاماً الاستمرار إذا لم يكن من توافق أو اتفاق.
هذا ما كنت أفكر به على الأقل، دون أن أدرك أن الأمور سائرة إلى منحى أكثر تثبيتاً.
تم عقد قراني الثلاثاء 18 يونيو/ حزيران 1988، حينها كانت الحرب العراقية-الإيرانية في آواخر طقوسها، وأثناء ذلك كان والدي قد تجاوز صمته، فقد اشترط أن تتم الخطبة وعقد القران معاً - خط الرجعة تم نسفه إذاً – فوالدي كما أصبحتم تعرفونه صاحب قناعات صعبة، وهو يرفض أن يستقبل خطيبي إلا بصفة أكبر من كونه خطيبي، وما لم يكن في الحسبان، أن أتحول من مخطوبة إلى زوجة مباشرة. 
أصبحت لحياتي انعطافات مختلفة، بروتين متمايز من زيارات رسمية، وعلاقات اجتماعية جديدة، تعرفت إضافة إليه على أخته الصغيرة والمدللة، وقد وجدتها سليطة اللسان، بعيدة عن اللباقة منها عن السذاجة، وأيضا على والدته التي عرفتها كوالدي، من حيث تدخلها في كل التفاصيل، وقرأت في عينيها نوعاً من الخبث الذي أورثته إلى ابنتها.
سارت علاقتي به بشكل جيد، وإن كان تعارفي به محدوداً، وبينما كنت أفكر في استغلال هذه الفترة للتعرف عليه أكثر، وإذ بوالدي يقرر فجأة سفرنا إلى دمشق لقضاء الإجازة الصيفية.
رغم هيامي بدمشق ورغبتي الشديدة في زيارتها أصبت بصاعقة شلت أعصابي، وتداخلت الأمور في مخيلتي:
أمعقول أن يتم تسيير الأمور بهذا المنحى السلطوي، ودونما أدنى مراعاة لمشاعري؟
اختلفت الأمور الآن، وما عاد مسألة اختيار فرع علمي، أو اختيار قطعة لاقتنائها، أو عمل لمتابعته، إنه الزواج بشاب بالكاد أعرفه، ومن حقي وواجبي عليهم أن يفسحوا لي فرصة التعرف عليه.
جاء قرار السفر على حين غرة، مُحطماً ما تبقى لي من أمل، ومع ممانعتي، وسيل الحجج، أصر والدي على أن نسافر أجمعين، لدرجة تيقنت معها أنه يفعل ذلك متقصداً.
أتراهُ ينتقم من ابنته، أم هي تجربة أخرى يود متابعتها؟
سافرنا إلى دمشق، وحطت طائرتنا ترابها، وعدت إلى بيتنا،  ففاضت مشاعري دمعاً على ما كان، وما يكون.
رغم ما أحمله من أشواق لكل زاوية ومنزل، إلا أني ظللت مُضطربة، ولم أستطع أن أجد راحة البال، لقد كنت أحس بالاشمئزاز والاضطراب.
بقينا هناك حوالي الشهرين، وتواصلي بالمحيط كان سلبياً جداً، مثلما هو تواصلي وخطيبي، فلم أحس منه أية مشاعر ود أو تقارب من خلال العدد القليل من الاتصالات، التي على الأغلب كنت أنا من تجريها. كنت أعذره بانشغاله في العمل، أو بفكرة الحياء.
لا أخفيكم أني كنت مشتتة التفكير، وبوضع نفسي قلق جداً، خاصة حين بدأت أتحسس تبعات فكرة أن أصبح مقيدة برابط الزواج.
عدنا إلى الإمارات وسارت الأمور على نحو مغاير، فوالدي استبق كل الترتيبات ليُصدر قراره بضرورة الإسراع في إتمام إجراءات الزواج والإفراغ منها في أقرب فترة. الجميع كان مُستعجلاً، وله الرأي إلا أنا، صاحبة القرار.
مجدداً أجابه بالحالة ذاتها، والتحكم المثيل ذاته، وعلى ما يبدو فإني قد تخدرت من كثرة المواقف، لدرجة أني بتُّ عاجزة حتى عن مناقشتها.
كم أنت قاس يا والدي لقد جعلت من ابنتك الناضجة، المثقفة، الواعية، لعبة، وأبقيتها طفلة عاجزة عن أي قرار.
يصعب جداً أن أتمكن من شرح الحالة الصعبة التي كنت أعيشها مع كل موقف، إلا أن السهل أن أقضي ليلي التالي أتجرع الألم، وحرقة الأعصاب بالبكاء.
لقد سلمت أمري وحياتي إليهم عن رغبة، فأنا بجميع الأحوال غير قادرة على أي تصرف إذا لم يريدوه، أما عن فكرة الانتحار فلا أتذكر أنها راودتني، لقد تعايشت مع كل ذلك.
أهلي وأهله رددوا "خير البر عاجله" وأنا وهو لم نردد شيئاً، وإن تيقنت وقبيل الانتهاء من المراسم أني قد أخطأت، بل لنقل تابعت ممارسة الأخطاء بفكرة القبول، هكذا كان تردد مشاعري، ولكنها تأخرت التنبيه.

-11-
"المحبة تصبر طويلاً, وهي لطيفة. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تتكبر. لا تتصرف بغير لباقة, ولا تسعى إلى مصلحتها الخاصة."
كانت حفلة مختصرة جداً، وبأحاسيس حزينة جداً، كان التاريخ هو 21 أغسطس 1988.
كثيرة جداً هي الأفكار الجميلة التي كنت أدخرها ليوم كهذا، وكم كنت أحلم بطقوس زواج فريدة، فيها أكون مختالة، وأدعو كل أصدقائي، والأهل، ومن أحب.
وكثيرٌ جداً هو الحب الذي كنت أخبئه لمن سيكون زوجي، كنت أرغب فعلا أن تكون حياتي ذا نكهة مختلفة، وأن أتمكن من ترتيبها بشكل أصبح فيه قادرة على إعادة تهيئة شخصيتي، ومواءمتها والحالة الجديدة.
انتهت مراسم الزواج قبل أن تبدأ، فالكل في عجالة من أمره، وكأنهم في سباق وليرحل الجميع فأبقى لوحدي معه.
لماذا نقونن أفكارنا وفق ما يناسبنا، ونصبغها بصبغة الشريعة والدين، أوليست فترة الخطبة وسيلة تعارف ليحسم في ختامها قرار الزواج؟ لماذا في بلادي يعتبرونها فترة انتقالية ليس أكثر؟

-12-
سارت الأمور برتابة ودون تعقيدات، ولم أجد الفارق الكثير بين الحياتين قبل أو بعد الزواج، لكني تحولت إلى "ست بيت" وهذا هو الاختلاف الواضح.
مع الأيام كثرت المشاغل اليومية التي ألهتني جزئياً عن التفكير في طموحاتي التي خططتها، خاصة مع تداخل العلاقات الاجتماعية، والفروض المنزلية، وزوج يغيب كثيراً. نعم، فمن الأيام الأولى وهو كثير الغياب، وإن حضر فقد كان ينزوي في مكتبه لساعات حتى يحين موعد العشاء، وفي أيام أخرى لم يكن يعود المنزل بحجة العمل، وكثيراً ما كنت أغفو وأنا أنتظره، وحين أفيق لا أجده إلا في اليوم التالي مساءاً.
كانت حياتنا تسير بديناميكية مُنفصلة، وكل يوم كان الشرخ يزداد، وإن لم تكن المشاكل كبيرة لدرجة الخلاف. لكني لست التي تأمل هذا، منزلاً، وسيارة، وخدماً... لقد كنت أبحث عن الحياة، وللأسف يوماً بعد آخر أحس بأني أفقد ما كنت أمتلكه. فوق ذلك تدخلات والدته وأخته في تفاصيل علاقتنا، التي لم تكن تتوقف، إضافة إلى زياراتهم الطويلة الكثيرة، والتي غالباً ما كانت تترافق مع افتعال بعض من المشاكل بيني وبين زوجي تارة، أو بيني وبين أخته تارة أخرى، علماً أني كنت ألطف الأجواء أغلب الأحيان، حتى لا تخرج عن نطاق السيطرة.
كانت فترة الحمل صعبة بالنسبة إليّ، فتضاعفت التأثيرات النفسية، وقد كنت أرغب طوال الوقت بطعام مُنوع، وفاكهة، وزوج يظل بجانبي، إلا أن كل شيء تحقق باستثاء الأخير.
ولماذا الحمل يا غادة؟
هروب آخر وجدتني أسير إليه، أملاً في أن يكون له دور في أن يضفي نوعاً من التمايز، والجمال على روتين ما نعيشه من حياة زوجية جامدة.
فكرت في أني بالانجاب سأحدث تغييراً في تصرفاته، وفي علاقتنا، لتُصبح أكثر تواصلاً وتفاهماً، فقد مضى على زواجنا أكثر من عام، ونحن خلاله نعيش دونما تواصل حقيقي.
حتى مع خبر كوني حاملاً ظل بلا مبالاة، هذه هي عادته، وإن بدأت تتفاقم أكثر تدريجياً، لقد بدأت اشمئز من سوء الاختيار، والقرار الذي ألفيت نفسي فيه.
"رنا" أصبحت مُنتسباً جديداً إلى العائلة مع ولادتها التي جاءت في الثالث من يناير 1990، تأملت أن تكون فاتحة خير، فوجود طفلة كالقمر في منزلنا نتشاركها كلانا الأبوية سيكون له وقع إيجابي، وانجذاب.
رنا كانت منذ الساعات الأولى أجمل شيء يضاف إلى حياتي، فمع أول صرخة منها، شعرت بقشعريرة أبهجتني، حيث ضممتها بحرقة إلى صدري، فيما آلام المخاض تذبحني، ولكنها كانت تخدرها ساعة أنظرها نائمة، أو تتناول طعامها بنهم.
كنت أزهو بها تغريداً، وكان صوت بكائها موسيقا في سمعي، كنت أراقبها كيف وهي تكبر، وتبكي وتنام، وأعيش معها اللحظة بلحظة.
تغيرت الكثير من الأمور، بعد مجيئها فانشغالي بها، وبقضاء حاجياتها أنستني كل همومي السابقة، وزوجي أيضاً.
هو بجميع الأحوال خارج نطاق الاهتمام بي، أو حتى بابنته، ومجيء رنا قد جعلهُ في حل من أي ارتباط إضافي. ولم يحدث أي تطور في علاقتنا، بل لقد سارت بعكس المسار، فبالكاد أصبحنا نجتمع، أو نتناقش.
ولعل الأمر الفيصل الذي لعب دوره في تطوير الأحداث هو الخلاف الذي حدث بيني وبين أخته، وتطور إلى حد الاعتداء عليّ، فلم أجد إلا صدر أمها مكاناً للشكاية، والتعبير عن الامتعاظ. حدث الأمر فجأة، ولاحقاً أدركتُ أنه كان مفتعلاً، وجاء تعبيراً عن عدم قدرتهم على تقبلي.
لم أجد إلا خياراً واحداً، وهو والدي لاتصل به، رغم رغبتي في إبقاءه بعيداً عن مشاكلي لكني كنت وحيدة هنا، لم يسمح لي باصطحاب ابنتي الصغيرة، كان يمارس نوعاً من الضغط والتعذيب النفسي الذي يمتهنه، بقيت أسبوعين وفيها حرائقي تشتعل شوقاً لابنتي وحالها، فهي طفلة صغيرة وكم تحتاج لأمها! ولا أدري كيف تطورت الأمور ليتصل بي مهدداً بالطلاق إن لم أعد، وليطلقني لاحقا غيابياً.
المسألة برمتها كانت مجرد خلاف، محصور بيني وأخته، وإن كان من خطأ فكلانا يتشارك فيه، ومن ثم كيف يكون الحكم غيابياً وبأقصاه، وكيف تكون كلمة " طالق " حاضرة الآن.
لم أفهم سبب الكره الدفين اتجاهي، وسبب جفائه! لم أستطع تفسير تصرفاته لقد كان يتصيد أي موقف ليعبر لي عن مدى كرهه، وحقده نحوي.
رغم أن الأمور هدأت بيننا لاحقاً، بفعل تدخل الأصدقاء، لكني مع هذا الموقف شعرت تماماً بمدى السوء الذي بت أعيشه. والأيام التي عشتها في فترة" الطلاق" كانت قاسية بالنسبة لأم تم تغييبها عن طفلتها وهي بعمر أقل من عام.

-14-
"في الأمور العظيمة يتظاهر الرجال كما يحلو لهم وفي الأمور الصغيرة يبدون على حقيقتهم." – شامبور –
كنت أشغل نفسي برسم لوحة، حين طرقت باب غرفتي أخته هيام تستأذن أن نتحادث قليلاً فيما الصغيرة رنا منشغلة كما العادة بدميتها، وترتيب منزل اجتهدت تبنيه لها.
جاءت بوجه مقلوب، تطلب مني أن أكون أكثر مرونة في التعامل مع زوجي ومعهم، وليتطور النقاش بيننا إلى درجة أني وجدتها تحاول فرض رأيها عليّ، فطلبت منها عدم التدخل في خصوصيتنا، لكنها لم تتحمل على ما يبدو موقفي، فاندفعت نحوي في محاولة لافتعال عراك، فتجنبتها، طالبةً منها المغادرة.
وفي ذات المساء عاد زوجي مبكراً لم يسلم عليّ، أو على ابنته، وبخني بنظرة حادة، وخرج من المنزل بعد دقائق.
ليتصل بي بعد أقل من ساعة، طالباً مني أن أرتب نفسي لمغادرة المنزل: "لم أعد أريدك في منزلي، سأعود بعد قليل حاذري التواجد، اتركي رنا وغادري."
لم أناقشه أو أرد عليه، وضعت سماعة الهاتف وساد الهدوء للحظات ليكسره رنين الجرس، فقد عاد ليتأكد من مغادرتي.
تركت المنزل وأنا لا أدري ما القصة، وأين أذهب، لم أجد إلا منزل صديقتي هالة، مكانا ألجأ إليه.
يومٌ وتتصل بي والدته، طالبة مني أن نلتقي لشرح المشكلة معتبرة أن ما حدث كان مجرد سوء تفاهم.
وافقت على العودة معها مُكرهةً، وخاصة أني لم أتحمل غيابي عن طفلتي مختصرة الأمر في خلاف عارض، يمكن لأي أسرة أن تعيشه، لكن المخيب للآمال، أن لا تلقى طرقاتنا لباب منزله أي صدى، رغم يقيننا بأنه في الداخل، لكنه رفض فتح الباب، مضيفاً إهانة أخرى أكثر إيلاماً وجرحاً لكرامتي، 3-صفحة 54 والدته لم تتصل بي ابدا (هو من اتصل وهدنني بعد أكثر من أسبوع وأنا من دهبت مع والدي ليأخدني عندها منعني من أخد رنا معي) اقترح الغاء الصفحة كاملا  غير مبال بالإهانة المرافقة التي تتلقاها قبلي أمه، ومدى الخجل الذي تلبسته. حاولت الاتصال به، لكنها عادت بعد دقائق:
"إنه خارج الإمارة لعمل هام، ولن يتمكن من العودة اليوم."
أتضحت الصورة تماماً، فافترقنا وأنا أقرأ علائم غضب على وجهها، فيما أخته التي انضمت إلينا لاحقاً لم تستطع كتمان ابتسامتها.
مضى جزء من النهار لألتقي بهم صدفة أثناء زيارتي لإحدى الصديقات "سعاد"، وقبل أن أكتشف تواجدهم، ناب إحساسي عن بصري بالتعرف على صدى أنفاس رنا، وحركاتها.
ابنتي هنا إذاً، حضنتها بكثير من الدموع، وحضنتني هي بشوق طافح.
مؤكدٌ أنهم يزورونها للاستفسار عن أخباري، هذا كان ظني الذي صدق لاحقاً. ومع ذلك ارتئيت أن أظهر بشائر الارتياح لهذه المصادفة، مزيلة علائم الانزعاج التي ترسمت على محياي. بادلتهم الابتسامة، وحينما اقتربت أكثر للمصافحة تهربوا عابسين. ساد صمت كئيب المكان، فيما صديقتي تمطرهم كرماً وضيافة، وأمام هذا الذهول الذي طال، عاودت حماتي حديثها الذي على ما يبدو أنها كانت تسرده قبيل دخولي: "ولكن ابني قد طلقها يا سعاد."
إذا انا" غادة" "أم رنا" هي المُطلقة!؟
كان وقع وطريقة تلقين الخبر صاعقة بالنسبة لي، كيف لامرأة متدينة، ربت أولاداً، وتعيش في أسرة كريمة أن تكون بكل هذه الوقاحة، والسماجة؟
أمعقول أنهم يكرهونني إلى هذا الحد؟
أليس في قلوبهم قطرات رحمة ورأفة بي وبهذه الطفلة الصغيرة، والتي تستنجدهم إيابي بدموعها. أي ذنب كبيرٍ اقترفته؟
أنا التي تنازلت عن حياتها، وشبابها، وأحلامها لأجل رجل، عله يكون لي السبيل إلى حياة افضل، أكثر إجلالاً.
توقفت الحياة من حولي وتحولت أمواجاً تضربني، وتجمدت مشاعري، فلم أجد إلا طفلتي التي غفت براحة وهدوء في حضني المُلهي عن حجم البؤس واليأس الذي سكنني.
لم أتحمل، رغم محاولات التجلد، حتى وجدت عيناي تخوناني بالدموع، ولتمتد الخيانة إلى لساني: "كيف يغدر بي بهذه الطريقة الجوفاء، ولا أعلم بالخبر، حتى ذهبت إلى بابه معكم؟"
مراراً حاولت أن أغادر منزل صديقتي، فلم أعد أحتمل أكثر، لكن إلحاحها، ودموع رنا جعلاني أتمهل.
إنه الغدر بعينه، وإنها قمة الإساءة، وقلة في القيم، والأخلاق.
في مكان آخر، خارج دائرة جلسونا كان عمي "هشام"، وصاحب الدار جالسين، فهما على تعارف منذ وقت طويل، وغاب عن بالي عن فكرة أن تحاول سعاد وزوجها التوسط مع عمي للمصالحة، فهي الأدرى والأرأف بحالي، وهي الصديقة الطيبة التي كنت أشاطرها آلامي مراراً، وحظي العاثر.
قدم زوجي فجأة، فقد اتصلوا يطلبونه الحضور، فترجتني سعاد أن أهدأ واستجمع قواي لترافقني إلى غرفة الجلوس حيث الجميع.
دخلت عليهم بتحية سلام، وانزويت جالسةً.
أمام هذه البرودة في الترحيب انزعج عمي الذي أصبح لي فترة ولم التقيه.
أمعن يلقن دروساً في الود، وحرمة المعاشرة، والحياة الزوجية، وهنا قاطعته: "لكنني مطلقة!"
كان وقع الخبر مفاجئاً، فعلى ما يبدو أنه أيضاً كان يجهل الخبر، فانزعج جداً، وأحس بضعف موقفه.
تدخل صاحب الدار ملطفاً الأجواء، وعرض فكرة المصالحة، وتجاوز الخلاف: "فلساعة الغضب تأثير سلبي، وهي التي أنجبت هذه التصرفات غير المسؤولة أو المستعجلة.
تمت المصالحة شكلياً، وعدت إلى عصمته، وأنا أستشف التفاؤل والود ولأول مرة في تصرفاته، وبعيد إتمام مراسم العودة، وجدته أكثر تقبلاً ووجدت محياه يرحب بي. 

-15-
المحاولة إذاً مُتداركة من خلال إيجاد طابع خاص فيه تتجلى الفردية الخالصة، لا يمكن الرفض كما لا يمكن القبول فيبقى التعايش المقنع بجملة مواقف ظاهرة ملبية لقوانين المجتمع هو فرصة التواجد.
افترقنا عن الأصدقاء وعمي أمام باب الدار، ورنا نائمة في حضني بعمق، لا أخفيكم أني وجدته أكثر رأفة، أتراها رنا من تكون السبب؟ لقد عاشت فترة عصيبة، وهو اللحظة يجدها غافية في راحة بال.
عادت الأمور إلى حالتها، ولكني كنت سعيدة بطفلتي كما هي سعيدة لأجل عودتي وهذا حالياً يكفيني.
أخي ووالدي أبقيتهما خارج دائرة ما كان يحدث معي، وفي ختام كل اتصال كنت أطمنئهم عن مساحة السعادة التي أعيشها. لم أخبرهم بما مررت به، ولكن الخبر وصلهم صدفة، فكانت صدمة وخاصة لوالدي معتبراً أن ما حدث لا يمكن السكوت عنه، وأن في الموقف إهانة له وللعائلة، فأقنعته بأن الأمور الآن تسير بشكل أفضل، من ناحية إحسانه في معاملتي، وبالطبع كنت أكذب في الشطر الثاني.
اتصلت سعاد تخبرني عن رغبتها في جمعنا على طاولة عشاء، وأعجبني الخبر، سيكون جميلاً لو جلسنا جميعا حول المائدة في أمسية عشاء وما لهذا من أثر إيجابي في إضفاء روح جديدة في علاقاتنا، فوجدت الفرصة سانحة.
قبل الجميع الدعوة، ووالدي أيضاً تمت دعوته وإن قبلها بإلحاح، ورفض أن يبادلني أية كلمة خلال المأدبة.
كنت أجهز نفسي للتحضر لحفل العشاء وفي أثناء بحثي عن مجوهراتي لم أجدها في مكانها، لقد كانت الحقيبة فارغة تماماً. سألت زوجي عن الأمر، فأكد أنه الذي أخذها، لفك حاجة صديق.
هل يصح بعرف العادة أن يتم التصرف بممتلكات الغير دون الرجوع إليهم؟ رغم انزعاجي الشديد، لكني لم أناقشه في ذلك.
كنت أرغب في تحسين علاقتنا، وفضلت الصمت، وأنا ألوك يأسي مجدداً. لكن المُخزي أني لاحقاً استبينت مكان مجوهراتي يوم لمحتها صُدفة في حقيبة كان يقتنيها سراً، إضافة إلى جواز سفري.
لم يكن يتوقع دخولي، أسرع يغلق الحقيبة، وتظاهرت بأني لم أرى شيئاً.
-16-
"السعادة صبية جميلة تسكن في أعماق القلب ولن تجيئ إليه من مُحيطه، وأنا لما فتحت قلبي لكي أرى السعادة، وجدت هناك مرآتها وسريرها وملابسها، ولكنني لم أجدها"
-جبران خليل جبران-
أيام قليلة وعادت الأمور إلى روتينها السابق الذي كان من ناحية علاقتنا وبرودتها، لم أعد اكترث لذلك حتى، أصب كل اهتمامي على طفلتي.
لم أفقد الأمل  وكنت حريصة على أن يسود الود حياتنا، لكني لم أحصد إلا المزيد من التعذيب النفسي والإهمال وعدم الاكتراث، لا بل ساءت الأمور أكثر، فقد تجاوز كل ذلك إلى ممارسة عادة الضرب، وبدأ يفتعل مشاكل من أمور صغيرة أو كبيرة، وبنتيجتها يكون القصاص دائما بلغة الضرب.
نعم أصبح الضرب وسيلته للتعبير، ولم أجد بداً إلا أن أتواصل مع أمه علها تكون فاعلة خير بيننا، وأن تكبح جماحه، لكن للأسف لم أكن أحصل إلا على مزيد من الوعود، دون إحداث أي تهدئة، بل كانت تحذرني من مغبة التمادي، بفكرة أن يطلقني لمرة ثانية. لقد كانت قاسية جداً معي، وكانت سبباً إضافياً لتعمق مأساتي.
بدأت حالتي تسوء شيئاً فشيئاً، وبدأت أفقد وزني أكثر، والحزن يسربل نفسيتي، جلست أمام المرآة، وأخذتُ أنظرُ إلى وجهي بذهول وأقول في خطاب مع الذات:
أمعقول أن يكون هذا الرسم، لذات الفتاة التي كانت كلها حياة، وربيع! من تراها تكون هذه المرآة الشاحبة؟ ما الذي يحدث؟ وهذا الشحوب، وهذه الهالات السوداء النامية تحت عيني، بل وكل هذا الذبول؟!
بدأتْ شهيتي للطعام تتلاشى. هزلَ جسمي، وغادرتني الابتسامة بعد ما كانت لا تفارق شفتي، صرتُ أحب العزلة وأكلم نفسي كثيراً، فأقضي ليلي سهراً وبكاءاً.
كل ذلك وعلاقتي بزوجي تزداد توتراً، كلما حاولت التقرب منه أجد الرفض، هناك أشياءُ أريدُ الإفصاح له عنها، ثمة مسافة بيننا، ولكنه لا يسمعني.
كان يعتقد أن مجرد وجوده في البيت يعني أنه موجود في حياتي. ولكن الحقيقة هي أن كلاً منا كان يشعر بنفسه غريباً عن الآخر. 
أين هو رفيقي في الحياة؟
صحيح أن المرأة - بدافع خوفها على أسرتها وحرصها على استمرار علاقتها الزوجية - تصفح وتعفو وتتحمل، وصحيح أن التسامح قد يحدث تغييراً جذرياً في نفس من يمارسه، ولكن ربما صار التسامح لدى البعض دافعاً مغرياً لممارسة الإساءة مرة أخرى، وهنا يجب الحذر.
خلاف إضافي أولده فجأة، وهو كوني أخرج إلى الطريق حاسرة الرأس، مع مرور الوقت وجدت أنه يتمحص عن أية نقطة إشكال ليثيرها، بغرض فرض نفسه وأهوائه، ولو بالإكراه.
وصل به الأمر إلى حد التهديد بالطلاق مرة أخرى، هذه السلطة التي لا ينكفئ عن إشهارها في كل مناسبة تهديد.
أشد ما يؤلمني أني أنفذ الأمر ليس من منطلق الحرص أو الدين، بل لأجل سادية منه، فهو شخص متناقض تماماً، ليس متديناً، لا يصلي ولا يصوم، وإنما يدعي ذلك. لقد رأيته بأم عيني فاطراً في رمضان، حتى أنهُ كان يدخنُ السجائر خلسة، ولم أره يوماً يقرأ ولو جزءاً من القرآن.
 كنت أجد في غيابه عن البيت ساعات راحة واطمئنان، ولكنه يوم تنبه إلى ذلك عمد إلى أمر مختلف. فقد قام باستقدام أخيه إلى منزلنا ليشاركنا السكن.
لم يستشرني في ذلك، فهذا منزلي أيضاً! حاولت بداية استيعاب المسألة، لكن مع الوقت أصبحت أضيق ذرعاً به، وتصرفاته التي بدت لي أنه كان يتقصدها من ناحية فرض نفسه كرجل ثاني في المنزل، وتقييد حريتي، إضافة إلى تصرفاته غير المسؤولة، واقتحامه الدار من دون إذن، فهو شخص غريب بالنسبة لي، وسيبقى كذلك.
وضحت لزوجي انزعاجي من دخوله المنزل دون قرع الباب، إلا أنه - كالعادة - لم يهتم، فالأمر لا يعنيه إذا كان متعلقاً براحتي، بل العكس هو المطلوب.
تفاقمت الأمور فأخذ يمعن في إساءته إلي، ومما أذكره - على سبيل المثال - أنه دلق على رأسي القهوة في منتصف الليل وأنا نائمة فيما الصغيرة رنا في حضني، بحجة أنني أهملت غسل الركوة، أو أن يطردني من الغرفة وغير ذلك، وحتى حينما كان الأمر متعلقاً بحالات طارئة كمرض رنا مثلاً، يومها رفض اصطحابنا الى طبيب، وقبل ذلك كان قد استخلص مني سيارتي بحجة أنها في التصليح لأغادر لزيارة أقرب طبيب بسيارة أجرة.
ما كانت الخاتمة ستكون إلا لحزن عميق في داخلي، فقد كبر وانتشر عبر السنين العشر، التي قضيتها معه، تلك التي لم أجد فيها أي حب أو أمل.
كانت الاستفسارات تتزاحم في صدري، كلما تدنت بنا الحياة إلى ما دون الصفر.
لماذا أغلق على روحي منافذ الفكر وحبسها في قوقعة من الحزن والاكتئاب؟
لقد وصلت إلى حالة اللاوعي، فقدت خلالها إمكانية ضبط أعصابي. عانيت من الإحباط الذي أوصلني إلى الانهيار العصبي، حتى اندفعت إلى حالة الإدمان على تناول المهدئات.-17-
ويستمر الغوص كما تستمر الحكاية في جو من الكآبة المقيتة واللعنة الدفينة المسيرة لمجمل الأحداث, فيكون الاحتلال والحضور في ساحة تتوالد لتولد نوعاً من الإبداع المموه بإشكالية الحل وغموض التحليل, ساحة يُحار في بنيانها وتحليل أسبار أغوارها.
الهدف معالمه جد غامضة، والغاية تفاصيلها جد متراكبة ومعقدة, ولكن الرسالة واضحة، وهي تأتي كمتابعة لسلسة أفكار ترسخت خلال زمن بعيد.
الدين والقانون غائبان، أو لنقل بصورة أوضح أنهما مُغَيَّبان، وإلا فما القانون الذي يحكم سير وتفاصيل حياتنا اليومية، وأي دين يضبط تشرذم روحنا. ما نعيشه ضياع تام, وتمثيل واضح لبعض الأفكار الدينية المكتوبة بأهوائنا, استقيناها بداعي الرهبة أو البهرجة, أو لنقل إنها جملة تصرفات امتلكناها وراثة.
العادات والتقاليد أضحت مذهباً خالصاً يمنطق تفاصيل تصرفاتنا ومسيرة مجتمعنا.
الفوضى في العلاقات، وسيطرة الميول، وتراجع دور القانون. كل ذلك وغير ذلك تنامى في مجتمع فقدَ حلقات وجوده، فضاع في متاهة الموجودات وغُيبت معالمه.
-18-
كانت علاقتنا تزداد تدهوراً، وتسوء أكثر يوماً بعد يوم، وبتعمد من جهته، فبشكل أو بآخر كان يعتبرني خادمة في منزله ليس أكثر، كل ذلك وهو يرغب في إنجاب طفل آخر، فهو رجل شرقي ويريد ابنا يحمل اسمه واسم عائلته، وأنا في ذلك وجدت باب أمل أن يكون مصدر تقارب بيننا. لقد بدأت أكره حياتي بشكل مريع، وبدأت أفكار غريبة تسيطر على نفسيتي.
القدر شاء أن تولد ابنتنا مرح في (28/11/1993). لقد كنت سعيدة جداً لأنها جاءت بعافية وسليمة، فمع حالة اليأس وسوء الوضع النفسي، كنت أخاف أن تأتي مشوهة، ولكن الرب كان رؤوفاً فارتضاها سليمة. وهو غائب دائماً، وكأني لست بزوجة، قد يتبادر إلى الذهن أني أتمادى تشويها لتصرفاته، أو يعتبر القارئ نصي هذا محاكمة من دون شهود أو دفاع، ومن طرف واحد، لكنهم بذات الوقت يمكنهم التدقيق في الكلمات ليقرؤوها كيف تشهد هي بنفسها على نفسها، يمكنهم الذهاب أكثر والعودة أكثر وقراءة كل تفصيلة، بدقة لمتابعة حالة اللغة، كيف وهي تهيب بهم صارخة أنها قصة تكتب بالدم، بالروح، بكل الألم الذي كان، بكل الذاكرة التي تحترق ومازالت تشتعل.
أي منطق هذا الذي يفرض الفرح فقط لكون المولود ذكراً، أوَليس الدين، والعرف، والعادة، والقيم، والانسانية كلها تجمع على المساواة، وتقبل خلق الله ومشيئته؟
خلال الأيام التالية لم يزرني ولم أجده مطلقاً، إنه يرسلني امتعاضه من فشلي في إنجاب ولد له، بل يستمر في عقابي وتعذيبي، فيما أمه تشاركه التعبير لي عن جنس المولود، هذا عدا عن أنهما لم يسمحا لوالدتي التي حضرت من دمشق أن تكون معي في المشفى بحجة بقائها مع رنا في المنزل، الألم الجسدي الذي عشته مع ولادة مرح كان أقل بكثير من الألم الذي يشعرني به، مع كل مناسبة تتوالى، فشلت لمرة أخرى، إذاً، والهوة تتسع بيننا أكثر، لم أجده يوماً يداعب أطفاله، أو يحملهن كما كل الآباء.
تتزوج الفتاة برجل تعتبره كامل حياتها، وانعكاس أحاسيسها ومشاعرها ورغباتها، تعتبره سنداً في أوقات الشدة ومصدر سعادة، وتدخر لأجله كل أسباب الراحة العائلية، وبمرور الوقت يصبح التفاهم حالة معاشة بحكم العشرة والتواصل.
كثيراً ما كنت أحس بعلائم الكهولة تترسم على وجهي، فمشاعري معه باتت أكثر من هرمة، وحينما كنت أجلس قبالة المرآة استرجع قصص الماضي واللحظات العابرة، متذكرة أيام دمشق، والحي، وأيامي في الإمارات قبل الزواج، كنت أقرأ كثيراً من الأمل، وكثيراً من التحدي، فبالرغم من الصعوبات التي مرت إلا أني كنت دائماً أجد حلاً لمشاكلي واستميلها قبولاً، أما الآن فالطرق باتت تضيق بي أكثر، وزواجي تحول إلى أكبر كارثة في حياتي، ومهما حاولت إقناع نفسي كانت تحدث مواقف تثبت صحة نظرية وجوب انسحابي، وأن أنهي فروض زواجي، أن أعيد الروح إلى ايامي بتجريده منها.
وتبقى رنا ومرح، أجمل زهرتين تنموان في حديقة مشاعري وترطبانها، كنت كثيرة الهيام بهما، فقد كنت والدهما قبل أن أكون أماً، فرنا التي باتت تبلغ من العمر خمس سنوات لا تعرف هجاء كلمة "بابا".
لقد كنت الأب والأم، ليس عن قصد، بل بفرضية ملئ شاغر غيابه المقصود، إنه يرفضهم كما يرفضني، ويعتبرنا أدوات منزلية مرمية يستعملها عند الحاجة.
حينما يزورنا أهله، كنت أبذل قصارى جهدي أن يظلوا راضيين، وأن يقبلوني كفرد من العائلة دونما خطوط فصل، لكنهم كانوا يفضلون الجلوس بخصوصية وكان وجودي في المكان يلزمهم السكوت.
شكلت ولادة (زياد) حدثاً جميلاً في حياتي، كنت أرغب بولد يكون أخاً لأختيه، بل ويكون أباً أيضاً، ويكون قادراً على حمل جزء من العبء عني بعد أن أعلنت وفاة والدهم فعلياً من حياتنا وأيامنا. 7-صفحة 73 اعتقد أنه فرح لأجل زياد 
ملاحظة عند ولادتي بزياد لم تكن أمي أو أمه موجودة هو من أخدني للمشفى وبقيت البنتان في البيت لوحدهما حيث سافرت أمه فبل ولادتي بخمسة أيام خوفا من البنت الثالثة ههههههههههه!!!
قد يعتبرني الكثيرون مجنونة لأني أفكر بهذه الطريقة، ولكني بالفعل وصلت إلى الخيط الرفيع بين العقل والجنون.
أعتقد أنه قد فرح لأجل زياد، ولكن حسبما نقلت أمي أن خبر سلامتي وابنه كان وقعه أقل من عادي، فهو لم يأت للمشفى، ولم يكلف خاطره الاتصال بي، بل أمه هي التي اتصلت  تخبره بولادة ابن له، وبأننا في صحة جيدة.
بقيت في المشفى عدة أيام ولم أجده زائراً أو مطمئناً، عدت إلى المنزل برفقة أهلي وهو غائب، إلى أن عاد في مساء اليوم التالي، ومر مرور الكرام بعد أن ألقى التحية على والدتي، ورماني بنظرة خاطفة لا أكثر.
-19-
"الزواج القائم على الملل هو محاولة تطويل قصة قصيرة"
حرب الخليج فرضت ظروفاً خاصة، ولدت فكرة أن نجد مكاناً بديلاً نلجأ إليه حين الرغبة.
كنت أبحث في أن نعود إلى دمشق للاستقرار فيها، فهواء دمشق كان يشدني دائماً، إضافة إلى أني تربيت هناك، ولنا فيها ذاكرة وأصدقاء. ولكن - وحسبما فهمت - فإن زوجي غير قادر على  زيارة سورية، ودون أن أتمكن من معرفة السبب، وأنا يستحيل علي الحصول على (فيزا) لأي بلد آخر، كوني أحمل وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين، صادرة عن وزارة الداخلية السورية، وأمام هذا الوضع يصبح تحركنا شبه مستحيل.
ومع تزايد ترحيل الفلسطينيين من الإمارات وجدت أن نسرع في دراسة كل الاحتمالات البديلة، ليس لأننا متفقين، أو نرغب في بناء علاقة أكثر اتزاناً، بل لأن الظرف بدأ يفرض نفسه، فحتم علينا أن نجلس لأول مرة على طاولة، وأن نتناقش الاحتمالات، كان يرغب في أن نسافر إلى الأردن، وأنا كنت أفضل دمشق.
بعد ولادة (زياد) وشيئاً فشيئاً بدأت أستشعر علامات الهدوء والارتياح عنده، بات يعود باكراً أغلب الأيام، وبدأ اهتمامه يظهر باحتياجات المنزل، وبي أيضاً، وأحياناً كنت أجده يكلم ابنته (رنا) أو يداعب (مرح).
أخبرني عن رغبته في شراء سيارة إضافية للمنزل، لأتكفل بمسألة توصيل (رنا) إلى المدرسة، فأريحه من ذلك العمل لانشغاله.
أبديت موافقتي على ذلك، فأنا – في جميع الأحوال - متكفلة بخدمة الأولاد ومدارسهم، وهذه المسألة تعتبر عادية جداً في دول الخليج، فالكثير من النساء يتحملن المسؤولية الكاملة للبيت والأولاد.
سعدت أكثر يوم اتصل يستشيرني أن نخرج معاً في رحلة، قبلت على الفور وأنا أزداد أملاً في أن علاقتنا تسير نحو الأفضل.
تركت خيار مكان وتاريخ البدأ بالرحلة له، فاختار أن نسافر إلى الأردن، وأن أتابع أنا والأولاد السفر باتجاه سورية ليعود هو إلى الإمارات، واشترى سيارة خاصة لأجل هذه الرحلة.
كنت مغتبطة جداً لأمر الرحلة، فقد تشكل فرصة السفر معاً مصدر تقارب أكثر، وأن نعيد اكتشاف بعضنا، متجاوزين سلبيات وأخطاء الماضي، وخاصة أن مدارك أطفالنا بدأتْ تتفتح، وآن لعلاقتنا أن تنضج.
انطلقنا في العاشر من حزيران 1998 قاطعين آلاف الكيلومترات، وانتعاشي يصبح أفضل مع كل اختراق لعباب الصحراء، حتى وصلنا حدود الأردن من ناحية السعودية، وعلى بوابة الدخول تم احتجاز جواز سفره من قبل رجال الأمن في الأردن، وبعد طول تدقيق وتحقيق، طالبوه أن يزورهم لاحقاً، هذا الأمر أثار ريبتي وفضولي في معرفة السر في ذاك الاستجواب السريع.
وفي الحال ربطت الأمر بمسألة رهبته من زيارة سورية، ورفضه للمحاولة أو المتابعة في ذلك، أو أشياء أخرى لا أعرفها، ما يهم أن جو الرحلة قد تكدر بغبار هذا الاحتجاز، واصطبغ بالقلق من ناحيتي، وعدم الاكتراث من ناحيته.
بدأ شعور الخوف والقلق ينتابني، فهو رجل غامض من أيام معرفتنا الأولى، ولم يتغير أبداً، والآن بدأت تتكشف بعض من خيوط اللعبة.
وما زاد ريبتي من الحدث، هو تجاهله لأمر زيارة الأمن، بل ووصول جواز سفره باليد إلى مسكنه بعد سلسلة اتصالات أجراها سراً، وما زاد فرضية وجود حلقة مفرغة وغير مفهومة، هو ما أثارته صديقة لعائلة زوجي تسكن الأردن يوم جائتني زائرة، فأبدت استغرابها الشديد من قدرة زوجي على الدخول إلى الأردن.
الرحلة التي كان من المفروض أن تكون ترفيهية وجدتها جاءت كتغطية لشؤون أخرى كان زوجي يخطط لها، وكانت الوسيلة أن يدخل الأردن مع عائلته، وتأكيداً على ذلك عاد يهملنا منشغلاً بأعماله كما في الإمارات.
ازداد امتعاضي من بؤس الحالة ومقتها، لدرجة ما استطعت البقاء صامتة، وتقبل كل هذه اللامبالاة، وما إن نطقت  برغبتي في الذهاب إلى دمشق حتى وجدته يرحب بالفكرة، وعلى أنه حالما يقضي أعماله سيعود للإمارات. 
في الصباح التالي سافرت مع الأطفال نحو دمشق، وودعته بكلمات أقرب إلى التوبيخ.
-20-
وصلنا دمشق، وأنا في حالة نفسية صعبة للغاية، استقبلتنا أمي في المطار وفرحت جداً بأحفادها.
كنت قد قرّرت أن أجرّد ذاكرتي من أحداث الأردن أو الإمارات ويأسي من زواجي. ولأني وجدت نوعاً من راحة البال في دمشق، فقد هدأت مشاعري قليلاً، والتي ما كانت تستفيض قلقاً إلا مع كل اتصال يكون رمزه الإمارات. 
وقد استغربت من كثرة اتصالاته بي وأسئلته بل وإلحاحه أن اختصر زيارتي لأعود إليه بأقصى وقت، على ما يبدو أنه كان ينتظر مني خبراً، أو طارئاً أُخبرهُ به. 
وهنا رغبتُ أن أعيد ترتيب أوراق ذاكرتي وتالي الأيام، وأن أحاول قدر الإمكان إيجاد أجوبة عن الكثير من الأسئلة التي بدأت تفرض ذاتها بأدواتها المتتالية، وأن أجد تفسيرات لجملة ألغازٍ ألفيتها.
كثيراً ما كنت أخرج سارحةً في شوراع المدينة الصاخبة والمرحة، الكثيرة التنوعِ، بعكس الإمارات، فهنا كل الوجوه متشابهةٌ، وفي تشابهها تقرأ الكثير من الاختلاف.
السؤال ذاته كان يتكرر صداه في خيالي، لكن دونما إجابة:
لماذا تزوجني وهو يكرهني ويكره فكرة الزواج برمتها؟ أأكون خطأ تكرر في حياته، ولا يجد سبيلاً للخلاص؟ وإن كان كذلك، فهو قادر بكل سهولة على تركي، وقد حدثت مناسبات عدة كان بإمكانه استغلالها، وبمباركة أمه وإخوته!
كانت الأمور تتداخل أكثر دون أن أتمكن من إيجاد إجابة وافية، فقد كانت تصرفاته غير مبررة.
ومع كل يوم اكتشف كذبة جديدة، واكتشف مدى ثبات رأيه في معاملتي بالسوء وأكثر، ومع كل موقف جديد ازداد قناعة بأني لا أمثل في سبيله أي أثر أو اهتمام.
حياتنا إذاً بدأت بكذبة صغيرة، سرعان ما تدحرجت ككرة الثلج لنصل إلى ما نحن فيه، أو لنقل ما أنا فيه، باعتبار أني من تتحمل تبعات كل ذلك، وأنه من ينتهك كرامتي، كزوجة، وكفلسطينية أيضاً.
كان شعوري أن كل ما يريدهُ هذا الرجل هو أن يجد شخصاًـ أي شخص في بيته، امرأة يظهر معها أمام الناس، تنجب له الأطفال. وليس مهماً من تكون.
ياإلهي! كم أدهشني هذا الأمر! أنا متزوجة من شخص لا أعرف حقيقته.
مراراً كنت ألحّ عليه لنزور دمشق معاً، وأن يريني جواز سفره، لكنه كان يلهيني بحجج واهية غير مقنعة، حتى تأكدت من الأمر ساعة الاستجواب على الحدود الأردنية، ومن ثم بالتهائه عنا إلى اجتماعاته، سواء أكانت في الأردن، أم في الإمارات.
كان خوفي يزداد مع فكرة أن يكون مذنباً، وأن نلقى ضرراً في سورية جراء ذلك.
كنت كثيرة الشرود، رغم قراري بأن أتجرد من كل هموم الماضي وإشكالياته، لكن ذكرى كلّ موقف وتصرف سرعان ما كانت تفرض نفسها، حينما كنت أراقب صغاري الرائعين وهم يُحلّقون كما السنونو في سماء مشاعري، ويلهون متمايلين مع كل حركة أو إيماءة، كنت أنسى كل هزائمي ومآسيّ، وكنت بهم أعود الطفلة غادة، وهي تتجسد في كل منهم. 
كنت أتذكر أيام الصبا والمدرسة والحارة وكل الأشياء الجميلة الأخرى، إنهم مصدر مرحي وتعاستي، رنا كانت نسخة طبق الأصل عني، بأناقتها في ما تلبس وتختار، وبحبها للحركة والسفر والتسوق.
مرح كانت تماثلني في اختيار ما يروق لها من طعام، لا تأكل أي شيء، بل تجدونها كثيرة التملق، والشهية تجاه ما يثير لذتها، أما زياد فهو غادة الرجل، ومواقفها، تجدونه رغم صغر السن دقيق الرغبات، قليلها، وثابت المطالب. إنهم عصارة روحي وجسدي وقد أُعيد تكويني بهم، إنهم يمثلون النصف الجميل الآخر من حياتي.
-21-
"قمة الأدب أن يستحي الإنسان من نفسه" إفلاطون
عدنا إلى الإمارات وكلي أمل ألاّ يكون العود أحمداً، وأن يكون لفعل الابتعاد أثره الإيجابي في تقاربنا، نعم كنت سأصبح سعيدة جداً لو وجدته في المطار مستقبلاً، أو في البيت وقد رتب طاولة غداء لعودتنا، يحمل طوق ورد بيده، كان ذلك طموحاً كبيراً تمنيته ولو لمرة واحدة، وهي أمنيات قد تعتبرها أية امرأة عادياً جداً.
للأسف، رغم معرفته تاريخ وموعد عودتنا، تجاهل متقصداً وأهملنا ولم يعد المنزل إلا متأخراً ودخل غرفة المكتب، عللت سبب غيابه لانشغال وظيفي. ولما جائني صوت حركة المفتاح في الباب خرجت لاستقباله، لكنه تجاهل وجودي ومضى دونما اكتراث.
استرجعت ـ للحظات ـ سنوات عمري المهزوم مع هذا الرجل الذي يثور ـ لأتفه الأسباب ـ مثل وحش كاسر، وكأن الإنسانية هجرت ملامحه فظهرت له مخالب وأنياب يفترس بها، بتُ أعيش متاهة شكوكٍ، فأكذّب هواجسي وأدفع عني نظرات الشفقة التي تقذفني بها عيون من حولي.
أهو كابوس أعيشه أم حقيقة تعيشني؟
أحسست أن صلتي بنفسي قد تلاشت وضاع وجودي مني. 
لا أعرف لماذا حدثت لي هذه النكبات، ولماذا ذبحني في أدق مشاعري، بدأت حياتي تدخل مرحلة جديدة من العذاب. حيث كان يدوس بقدميه كل شيء، كنت أريد الاستمرار معه كزوجة لا كخادمة لأنني أكره أن أصنف نفسي من ضحايا القدر مستسلمة.
ما أصعب أن يعيش المرء حياة الأموات! وتغادر الروح جسدها فتكون حياتها موتاً غير معلن!
-22-
التاريخ هو العاشر من اكتوبر 1998، دعينا في مسائه لحفل زفاف ابنة عمي، سلمته بطاقة الدعوة، بل لنقل تركتها على طاولة مكتبه لندرة التقائنا، جائني يحملها مومئاً أن أتحضر للذهاب.
كان الجميع هناك، وكانت الحفلة متميزة ( فندق هوليداي إن، الشارقة)، سادها جو ابتهاج طيب، وحضور جميع العوائل القريبة.
عدنا إلى الدار في وقت متأخر برفقة أخي، في الصباح أوصلت الصغار إلى المدرسة، وحينما عدت كانا قد خرجا أيضاً إلى أعمالهم، حتى في وجه أخي لا يستطيع إظهار علائم رضى وقبول.
على غير العادة، اتصل يخبر أنه سيعود وقت الغداء، ولأول مرة منذ زمن تناولنا طعام الغداء مجتمعين برفقة الأولاد، كان عابساً بشدة، أكثر من المعتاد، دخل غرفته تبعته، استوضح السبب أو المطلب.
طلب مني مغادرة الغرفة، دونما استزادة:
تصرفاتك ستجير عليك الطلاق قريباً، ولكني أحتاجك لفترة أخرى.
ما هذا الخطاب وهذه اللغة غير المحترمة؟ أنت تهين كرامتي من دون سبب.
أكان صعب عليك يا محترمة أن تقاومي جمال ابن عمتك لتتملقيه نظرات طوال الحفل؟
ابن عمي أمجد! إنه ولد سامحك الله، تتهمني بالخيانة أيضاً، أما بقي في رصيدك اتهام آخر لترميني به.
أعجبك إذاً، كم أنا متأسف لأجلك، ألا يمكنك التفكير بأطفالك الثلاث، ومصيرهم!؟
أنت فعلاً قليل الاحترام والتقدير، أنت ظالم.
لم يستطع كبح جماح وحشيته حتى رأيته ينهال عليّ بكل قوته ضرباً وكلاماً جارحاً، فيما صرخات الأطفال تأتينا من الغرفة المجاورة، لم أنبس ببنت شفة، أردته أن يستمر أكثر في ضربي وإيلامي، فأنا أستحق هذا.
مؤخراً بدأ يجد له أسباباً مختلفة لإيذائي، حتى وصلت حدود الشرف والخيانة.
أتعبه ضربي فخرج من المنزل وأنا أجهل ما في خياله من تصرف.
ذهبت أهدئ روع أطفالي، وآلامي لا تتوقف شدقاً في جسدي. 
في المساء تقصدت النوم باكراً كي أتفادى شره، لكنه لم يتركني، عاد إلى البيت عند الساعة العاشرة والنصف. أيقظني وأمرني أن أخرج من الغرفة وهو ينعرني بيده على كتفي، فأبيت ذلك وإذ به يتحول مجدداً إلى وحش كاسر. تناول الحزام الجلدي من خزانة الملابس ونزع الغطاء عن جسدي، وراح يضربني بعنف كمن يفرغ غضبه. لم أقاوم. لم أتحرك. لم أصرخ. لم أحتج. ليس لأنني كنت موافقة على ما يفعل، بل لكي أتذوق طعم الألم الجسدي أكثر بعدما بات الجزء النفسي منه أقل ذي أثر، ولألّا يصل صوتي لأطفالي، لم أشئ أن يأتوا ليجدوا أمهم كنعجة تسلخ دونما ذنب، وكأن سكوني قد أثار شهيته ليستمر أكثر: 
أنتِ بلا إحساس! 
انحنى على السرير...أمسك شعري بكلتا يديه....ألقى بي على الأرض وراح يجرني إلى باب الغرفة كما لو كان يجر شاةً. رماني خارجاً، فيما نظري صوب غرفة الأطفال على أمل أن لا يفتح بابهم، رغم كل الذل الذي أعيشه، لم أشأ أن يجدوا أمهم المَثَل ذليلة منتهكة الكرامة والقيم.
ذهب إلى الهاتف يشرح بطولاته لوالدته، طالباً أن تتصل بوالدي ليأخذني، قبل أن يرميني خارجاً:
لقد شفيت غليلي منها، ولم أعد أرغب بها في منزلي يا أمي، لم أعد…
مرت الساعات وأنا أجتر ألمي، والدماء تسيل من فمي وأنفي، وهو يتشدق بسوطه، الذي يحركه يسرة ويمنة، كبيان تهديدٍ مُلازم.
جاء الصباح ونحن على تلك الشاكلة دون أن يأتي أحد من أهله، كنت أفكر في أمه، ومدى كرهها لي، لقد أخبرها من خلال الاتصال بما فعله بي، ورغم ذلك ما استطاعت أن تكلف خاطرها في المجيء والوقوف على حقيقة الأمر، لقد كانت أيضاً تشاركه تعذيبي.
كان يجب أن اصطحب البنتين للمدرسة، إلا أني عجزت عن فعل ذلك.
وكهدنة لخاطر الأطفال رجوته أن يقوم بذلك، وهما في الخارج تنتظران.
لا مدرسة اليوم، وممنوع مغادرة المنزل.
لا تقحم البنات في خلافنا، لقد صادرت مفاتيح المنزل والسيارة وباب غرفتي، أعطني المفاتيح لأوصلهما، ولأحضر حاجياتي قبل أن يأتي والدي لأغادر معه.
لن أكرر ما قلت.
كظمتُ وجعي وحاولت خطف سلة المفاتيح التي يلوح بها. حصرني في زاوية ضيفة بين الحائط  والباب، أطبق أصابعه على رقبتي وحاول أن يخنقني. لم ينقذني من هيجانه إلا صراخ الصغير زياد الذي ظهر بين أقدامنا فجأة. 
رماني بعنف والدم يتدفق إلى وجهه، وهرع هائجاً نحو المطبخ ليعود بسكين وهو يهدد به، خفت على ابني الصغير أكثر، حملته مسرعة نحو أقرب غرفة وهو يتبعنا، حتى أغلقت الباب، وبدأ ينهال ضرباً وشتماً محاولاً كسر الباب لكسر كرامتي أكثر.
بعد أن أفرغ كل طاقته في محاولات اقتحام الغرفة، سمعته يتحدث بالهاتف مع أحدهم، استبينت أنها أمه، فزوجي يحب تصدير كل مشاكله، وأظن أن أحد أهم أسباب فشلنا في الزواج كان بسبب ذلك.
كان صوت هذيانه لا ينقطع، حتى ساد صمت مريب، ليعقبه صوت الباب الخارجي، يفتح وينعق غالقاً.
أيكون الثور الهائج قد غادر؟ لم أجرؤ على الخروج، لكن صوت جرس المنزل دفعني لتجاوز حاجز الصبر، وقد بدأ زياد يتململ جوعاً.
إنه طفلٌ صغير، ما أدراهُ بكل جرائم والده التي كررها خلال الساعة الأخيرة، وليلة أمس، وقبلهما، قد يعتبرها مشهداً درامياً، فيه تمثيل لجبروت الرجل، والقوة والجريمة التي يمنحها القانون الذكوري. 
لا أدري صراحة كيف تسن القوانين في بلادنا للرجل وبيد الرجل ولصالح الرجل، ومن ثم تظهر شعارات حقوق وحرية المرأة ومساواتها مع الرجل؟
تعرّضت النساء دائماً للرجم والحرق والتشويه والضرب. فهنالك كمٌ كبيرٌ من الكرهِ والبغضِ تجاههم في الأديان والمجتمع.
إنّه الدليل الآخر على ما أُطلق عليه "الذعر العنيف" الذي يحمله الرجل تجاه المرأة، هو عنصر من تركيبته الشخصية الذكورية، هي ظاهرة من العسير على الرجال أن يتخلّصوا منها لأنها من أصل كلّ ثقافة، أيّما كانت هذه الثقافة.
الأنثى في خطر، قد كانت كذلك في ماضي التاريخ، وما تزال، والفكر الفرويديّ ساهم في إيجاد نظرة دونية للمرأة، وهذا مثبت من خلال جملة أفكاره المطروحة: " هناك شيء ما في تركيبة الأنثى يجعلها دائما متلقيّة، متقبّلة، في الاستقبال… "
(لاكان Lacan) تابع: " المرأة ليس لها أنا أعلى"، إذن هي غير قادرة على إبداع أعمال فكرية، "المرأة غير موجودة " ولا يمكن أن نعطيه مفهوماً لأنّها تنتمي للاّنهائي. أما بالنسبة للرجل، ولأنّه في "المنتهي" و"الفاني" فإنّه شديد الحزن والحسرة. وانغماسه في اللّذة يجبره على نحت هوية جديدة رجوليّة والعنف المُمارس أحد جوانب تلك اللذة.
وفي فكرنا الشرقي المتوارث الكثير، الكثير من الجور المموه بثقافة اللا تمييز، وبشعارات الحرية، والمساواة، لكنها شعارات ليست أكثر، أما في التطبيق، فإنك تجد ألف حالة تهميش وتجاوز.
عدت إلى وعيي من خلال صوت ابنتي المتزامن مع رنين الجرس. 
أيكون قد تركهما وغادر؟ أم أنه رصدهما كطعم لاصطيادي؟ وإفراغي مزيداً من شهوانيته في الضرب والتنكيل.
مهما يكن فقد حسمت أمر مواجهة الموقف، فدموع وصراخ ابنتي تتوسلانني جرأة.
خرجت حاملة زياد على صدري، وهرعت نحو الباب افتحه دون أن يفارقني الخوف لحظة.
كانتا تفترشان المدخل، اتحدنا ثلاثتنا، والدموع تستفيض رغباتنا.
كيف لرجل تربى في بيئة سليمة، وسط يسر مادي وتعليمي أن يحطم أربعة حيوات هن من كبده، وأن يتصرف قاسياً لهذا الحد:
بابا دفشني وطلع ولما خبرتوا أني لازم روح ع المدرسة لأن عندي امتحان قال:
مافي مدرسة، وخلي أمك تسترجي تطلع أو تحاول توصلك.
هدّأت من روعهما، ومسحت بدموعي دموعهما، ودخلنا المنزل وأنا اصطنع القوة، متجاوزة كل اليأس الذي يسكنني، فهم من صبري يأخذون الثبات، ويكون تجلدي عزاءً لهم.
اتصلت بأمه علها تتدخل لمرة أخيرة ببادرة حسن النية:
أمي، إنه يسيء كثيراً إليّ، وقد ضربني بعنف، ويمنعنا جميعاً من الخروج، كان يجب لرنا ومرح أن تكونا في صفهما لتقديم الامتحان، أرجوك أن تأتي لاصطحابها، فأنا في حال يرثى لها، وعاجزة عن الخروج، وممنوعة.
اكتفت بوعد أنها ستحاول العودة مساءً لاستبيان الأوضاع. وأمام دموع وتوسلات رنا، تجرأت أكثر، رامية بكل تهديداته خلف ظهري، ركبنا أول سيارة أجرة، وأطفالي الثلاثة معي، أوصلت البنتين، وعدت المنزل بذات السيارة، وكان عليّ أن أذهب لاصطحابها في الثانية عشرة، لنكون في المنزل قبل عودته أي في الواحدة.
لكنه لم يرجع البيت، حل المساء وأنا انتظر عودته، أو زيارة والدته التي كنت أترقبها بإلحاح.
قد يكون لرأيها وسلطتها كأم دورٌ بنّاء في توطيد أو ترابط أسرتنا التي بدأت أتأكد من اقتراب انهيارها.
مرح وزياد كانا أصغر من أن يقرأا ما يحدث، أو أن يحاولا الحديث عنه.
رنا كانت أكبر، والمواقف المتكررة بدأت تثير في خيالها الريبة، ومحاولة البحث عن التفسير.
مساءً خرجوا للنوم في مواعيدهم، دخلت للاطمئنان وتوديعهم بقبلة الهناء، لكني قرأت في عيون رنا حزناً وأسئلة، وقبيل مغادرتي تَجَرَأت بخجل:
ماما شو القصة بينكون؟
استوقفني السؤال، ولم أعرف كيف أتجاوزه بالرد.
لم أكن أريد أن أقحم أطفالي في مشاكلنا، فهم أصغر من أن يتحملوا خلافاتنا، وكثيراً ما كنت أصطنع الفرح أمامهم معه لأجل أن يكونوا أفضل حالاً، وأكثر ثقة.
انحنيت أقبلها، وأنا أطمئنها:
لا تكترثي صغيرتي، مجرد سوء تفاهم لا أكثر، وفي الغد سيكون كل شيء قد أصبح أفضل.
جلست ألوك ذاكرتي، وأتجرع سوء الحظ الذي يتلبسني. لا أظن أنني سأبالغ إن كتبت أني لم أذق طعم النوم للأشهر التالية، أعتقد أن مسألة انهياري باتت قريبة جداً،  وأن حياتي تحولت فعلاً إلى حطام، أشعر بالخوف حين أذكر العذاب والألم الذي عشته حينها.
بماذا يفيدنا الأدب إذا لم يعلمنا كيف ننسى؟
كوني اليوم أكتب عن ذلك بهدوء أستطيع اعتباره دليلاً  على قدرة الوقت على شفاء الجروح لأنني لم أكن أتحمل ما كان يحدث حينها، ولكن ليس في قدرته أن يشفيني من أطفالي الثلاث وربيعهم، وصدى محبتهم، وهنا يكون فيصل الكلام. أنا أكتب لهم ولأجلهم، أكتبهم رسالة لتفسير الماضي كله، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، وزوجي يومها كان المنتصر فكتب لهم ما يشاء، اليوم أنا المنتصرة لأني عدت بالكلمات مُحاربة، فهي سلاحي وذكرياتي هي حبر دواتي، هذه الكلمات برمتها أعتصرها في كتاب لأجلهم، ليقرؤوا ما عجزت رسائلي وتوسلاتي، التي لم تصلهم.
أكتب اليوم وأوزع ذاكرتي المحترقة كتاباً، عله يصل إليهم، وإليهم فقط.
أكتب لكي تقرأ رنا أجوبة أسئلتها. لكي تقرأ مرح قصة أمها. وزياد كي يعرف سبب تركي له طفلاً.
أكتب للمستقبل الذي "يملكه هؤلاء الذين يؤمنون بجمال أحلامهم."
-23-
"فالشفاه التي تردد الكمال الصاخب تردد الموت، والموفدون إلى هذا الليل ليبنوا أدراجه اللولبيَّة يبعثرون الرخام الذي حملوه." - سليم بركات -
في وقت متأخر من مساء ذات اليوم فُتح الباب ليعود، مصطحباً معه أمه وإخوته الثلاثة. 
كم كنت أحتاج في هذه اللحظات إلى نصيحة صديق، أو سند أخ أو والد، وكم تذكرت أمي لتأتيني فأبكي في حضنها، لكني أيضاً أم وربة أسرة وواجب عليّ الحفاظ عليها.
جلسنا في غرفة المعيشة، والوقت يمر ثقيلاً بدأت أمه تلقي دروساً عن الألفة، والعائلة وضرورة الحرص على حمايتها، وأننا آباء لثلاثة أطفال، ويجب علينا على الأقل أن نتعاون حسناً لأجلهم. 
كنت أقرأ في عيونها الغدر، والغرور، والإيذاء، وبذلك كانت توبخني ملقية بكامل اللوم عليّ، ويأسهم من تصرفاتي وعدم قبول النصيحة.
لم أتحمل تماديها، وتجاهلها لجوره، بل ووقوفها في صفه:
وليكن… ولكني لم أخطأ، أو أهمل لحظة عائلتي، ابنك الذي هو زوجي، ليس لديه أي احترام لي أو لنا كعائلة، بل وإنه يتجاوز ذلك إلى الإساءة، والتعدي بالضرب، وسن ما يناسبه من قوانين دونما مناقشة.
دعيني أسأله في حضوركم، وبسلطة الشريعة، إن لم يكن يصاحب نساءً أخريات.
كانت جرأة كبيرة مني لحظة نطقت ذلك، وصدمة للحضور، لم يتحمل وقع اكتشافي، واستشاط غيظاً، وفرطاً:
نعم، ألفٌ تنتظر مني إشارة، لا يحق لك أن تحاكميني، وسأتزوج بثانية خلال أيام، وسأسكنها داري لتخدميها أيضاً.
أمام هذا الإقرار، وهذه الإهانات، وقف الجميع مذهولاً، فاستغليت الفرصة لأتابع:
أحزن على نفسي لأني حرقت أيامي بك، أعتقدت أنك ستصبح مع مرور الأيام قادراً على احترام عائلتك ونفسك، وأن تندم على سوء معاملتك وتتفهم أنني إنسانة بمشاعر وأحاسيس ولست آلة برسم الملكية، لكن على ما يبدو أنك ماض في غيّك، ولن يوقفك شيء، والأنكى أن تأتيني بعد كل الذي كان، وبعد يوم حافل بجرائمك المتكررة، متحصناً بعائلة لطالما اعتبرت نفسي جزءاً منها، عائلة التجأت كثيراً منك إليها عبثاً.
لم أقحم أحداً من أهلي حتى الآن في أيٍ من مواضيع خلافاتنا ولطالما سعيت أن أحصرها في سوار عائلتنا الصغيرة، ولكنك أيضاً وبذات التأثير كنت تعمد إلى إشهار أي خلاف يحدث مشركاً فيه حتى الجيران، الأولاد اليوم كانوا أيضاً جزءاً من انتقامك، الذي وصل حدود محاولة التعدي علي بسكين دون أن تكترث حتى للصغير الذي كنت أحمله في جيدي، ودون أن تقدر أن ابنتينا واقفتان تراقبان بطولة والدهما من بعيد.
تحملتك كثيراً، وتحملت ظلمك وسوء معاملتك وتجاهلك المتعمد، وهجرك، وأكثر… كل ذلك إكراماً لأهلي وأهلك، وتضحية في سبيل أولادنا الذين لم يجدوك يوماً في منزلهم والداً يحبهم، يهتم بهم، ويرعاهم، متابعاً سلوكهم وتحصيلهم العلمي.
 اسمح لي أن أسألك عن اسم مدرسة رنا، أو عن درجاتها في الفصل.
 أتستطيع أن تذكر لي أي مرحلة وصلت مرح، أو عيد ميلاد زياد؟
حرصي على أطفالي، جعلني أتجاهل، وذلك سبب آخر لتفرعنك عليّ، ولكن كما يقال قد طفح الكيل، ولم يعد لصمتي قدرة إضافية على التعشعش.
أمام صمتهم وذهولهم انسحبت ودخلت غرفتي، وأنا أشهد انهياري الأخير، اتصلت بأخي فهدّأ روعي مطالباً مني التزام الدار لحين وصوله.
وصل أخي حوالي الواحدة صباحاً، فتحت أنا الباب له، بعد أن تجاهلوا طرقه، لينسحب زوجي إلى غرفته.
دخلنا على الفور إلى غرفتي، بكيت لدقائق في حضنه، كنت أحتاج إلى سنوات من البكاء علّي أفرغ كل هذا الكبت، واليأس، والحنين.
دخلت أمه علينا متصنعة البراءة، ترجت أن نؤجل قرار المغادرة، وأنها ستتكفل بتهدئة الأمور.
وفيما هي منهمكة بالحديث مع أخي، خرجت أبحث عن وثائقي وجواز سفر الأطفال، كان في غرفته يتصنع النوم تجنباً لمقابلة أخي، وما إن فطن لذلك حتى رمى بنفسه من على الفراش وأوقفني قبل أن أدخل غرفتي دون أن يكلف خاطره بالسلام على أخي:
أعيدي جوازات سفر أولادي يا......، وغداً سألغي إقامتك.
من عيني أخي قرأت ثورة، ولكن والدته تدخلت:
ما هذا الكلام، أفقدت عقلك.
أرجوكم سامحونا، إنه يهذي لا أكثر.
سحبتْ مني جوازات السفر، وأخرجَتْه من الغرفة، هدأ الجو قليلاً، وساده سكوت مطبق.
بقي أخي في غرفتي وهو يحاول دفعي للنوم، أعتذرت منه بشدة، وأنا أقرأ التعب في عينيه لساعات العمل الطويلة، ولحزنه لما حدث.
في  اليوم التالي( 12/10/1998 ) وبعد أن أدركت أمه درجة تأزم الوضع، واحتمال وقوع الضرر كله على ابنها، بادرت بإجباره على أخذ الأطفال إلى مدارسهم، وجاءت تعتذر عن تصرفاته، مطالبة بفرصة أخرى لإصلاح البين.
وعرضت أن أخرج والأطفال معها في رحلة سياحة لأيام لتغيير الأجواء.
وعلى الفور اتصلت بابنها تخبره بخبر سفرنا، عدت مجدداً لغرفة النوم وأخذت وثائقي وجوازات سفرنا، ولكنني لم أجد مفاتيح سيارتي فقد أخذها معه، وهي عادة أخرى له حيث يستخلصني كل شيء أثناء المشاكل كورقة ضغط وتذكير بمكرماته على ما يبدو. كثيراً ما تجد أطفالاً يسمحون للآخرين باللعب بدميتهم، ويستعيدونها عند الغضب عقاباً لهم.
سافرنا أنا وأمه وأخي وزياد إلى إمارة رأس الخيمة، رغم تيقني حقيقة أن زواجنا على وشك الانتهاء.
غادر أخي إلى عمله، وهو يستأمنني أمه، قرأت القلق من تصرفاته فما حدث معي أمس كان له كبير الأثر عليه، طلبت إليه أن يبقي الأمر سراً عن والدي، وأعطاني مبلغاً من المال، لأنه قرأ تماماً حجم ما يحدث وسيحدث، مطالباً مني التجلد:
قدرك أسود غادة...للأسف يجب أن تتحضري قوياً للمرحلة المقبلة.
كنت أسمع هديره من هاتف أمه، يتصل طالباً جوازات السفر مع برقيات تهديد إن لم تصله خلال يومين.
كثرت تهديدات طلاقي مؤخراً، فمع كل حالة خلاف يكون الطلاق خياراً وحيداً إن لم أرضخْ.
كانت فرصة طيبة، استغليتها لأريح أعصابي التي تكاد تحترق، وأن آخذ قسطاً من الراحة النفسية دونما منغصات.
حاولت التواصل مع رنا ومرح أكثر من مرة، ولكنه كان قد منع عنهم الهاتف أو الاتصال بي مهما كانت الظروف.
في عطلة نهاية الأسبوع جاءنا بضغط من والدته مصطحباً الطفلتين، كان قد اشترط عدم لقائنا أو لقائي بهم إلا بعد أن أعتذر له أمام الجميع، وأقر بأخطائي. أية أخطاء، وأي اعتذار؟! لا يا صديقي، لن أعتذر، لأني به أثبت اتهاماتك، التي لا صحة لها أو قيمة.
تشوّه سمعتي، وتسيئ إليّ أمامهم، وتضربني رفساً ودفعاً، وتلزمني الاعتذار؟
يا إلهي! لم كل هذا؟!
لم يشأْ أخي إلا العودة، رضخت مكرهة لشروطه، فأنا لا يهمني إلا أن اجتمع وأولادي الذين فرض عليهم وعلي عدم التقابل.
أي أب هذا؟ وأي زوج؟ فلم يظهر أية علائم احترام أو ود حتى في المصالحة. تصوروا لقد عاد يهينني وأمام الجميع. 
عبر أخي عن انزعاجه الشديد، إلا أنه كان متيقناً بأن مصيرنا معاً بات في أواخر فصوله، فآثر السكوت، بالعاً الإهانة بامتعاض.
كنت أعيش ألمي، وامتعاض أخي، وأهدئ روعه، أملاً في أطفالي الثلاث وحالهم إذا خرجنا دون اتفاق. 
فقرار العودة كان حجم تأثيره في كرامتي كبير الوطأة، لكني لا أملك إلاه بديلاً، ورغم قسوته، إلا أن خيار أطفالي قابع في تفاصيله.
تراجعت عن الرحيل مجدداً، وأملي بتحسن العلاقة رغم خبوها ما يزال يلح عليّ.
وهأنذا أعود كأم فقط، فهذا ما ساد جو جلسة المصالحة، وهذا ما شعرت به، وشعر به أخي متأسفاً. بت في خياله قطعة أثاث لم يحن أوان بيعها أو رميها كأمرأة بالية مستهلكة، فمن الواضح أنه يعيش إشكالاً كبيراً، لا يستطيع قبولي كزوجة، أو إبعادي.
عدنا إلى المنزل، كنت متعبة للغاية، فقد مرت علي أيام دون أن أتذوق طعم النوم، حاولت مراراً تصنع القليل من السعادة والمرح في وجهه، وأن ألطف جو العلاقة، لكنه صدني كما كل مرة، ويوم حاولت دخول غرفة نومنا، رفض ذلك، بل ونكرني كارهاً:
تواجدك هنا، فقط لخدمة أطفالي، ومنزلي، وأوان لفظك قريب جداً، لكن لكل موقف أوانه.
نظرت إلى نفسي كخادمة أثيوبية ببشرة بيضاء.
لم أرد عليه مطلقاً إلا بدموعي الماطرة، وأعصابي المنهارة.
اطمأنيت على أطفالي بقبلة المساء، وكانت حماتي قد غفت أيضاً في صحبتهم، ولم أك أرغب في أقحامها مجدداً في الموقف الأخير.
أنا متعبة للغاية، والنوم إن تم سيكون فرصة للهروب من كل هذا مع شدة حرقة أعصابي، وصلت مرحلة الانفجار، وعلي أن أجد مفراً ما، وافترشت أرض الصالون دون أن أبدل ملابسي. أي ذل هذا الذي أعيش فيه؟
أنا في غاية التعب، وربما لهذا لا أستطيع النوم، ليس لي إلا اللجوء إلى الأقراص المنومة. إنها تحت اليد دائماً. لدي علبة منها، أو حتى اثنتان. 
هذا المهدىء وصفه لي أحد الأطباء، رغم أنه كان يلح بضرورة أن اصطحب زوجي معي إلى عيادته، فربما كان هو السبب فيما أعاني. ولكنني لم أكن أجرؤ أن أطلب منه مرافقتي إلى طبيب نفسي. 
كنت قد لجأت إلى الطبيب قبل ستة أشهر تقريباً بعد أن تفاقمت مشاكلنا، ولكنني ترددت طويلاً قبل أن أتناول الحبة الأولى منه. غير أنني -منذ شهرين تقريباً- لم أعد قادرة على مزيد من التردد، فلجأت إلى وصفة الطبيب أخيراً، وبت أتعاطاها وقد ساعدتني قليلاً على تحمل متاعبي. 
أما اليوم فالوضع مختلف تماماً، رأسي يكاد ينفجر من كثرة التفكير، كنت قد تناولت قرصاً مُهدئاً قبل جلسة المُصالحة حتى أمنع نفسي من الانجرار وراء استفزازه، ولكن الموقف كان أقوى من جميع المهدئات. وهكذا فإن القرص لم يعط النتيجة المرجوة منه.
يارب! ماذا أفعل؟ أريد أن أنام ولو قليلاً. تناولت قرصين من المهدىء دفعة واحدة. 
مضت ساعة ونصف الساعة، ثم ساعة أخرى، ولم أتمكن من النوم.
فكرت في قرصين آخرين. تناولتهما دونما جدوى. ظهرت حماتي في الصالون فجأة، يبدو أنها استيقظت على حركاتي، أو -وهذا ما أرجحه-  كانت تراقبني طوال الوقت.
وما أعتقده أيضاً أن كلاً من زوجي وحماتي شعرا بحاجتي الماسة لطبيب:
لقد تدهورت صحتها بني، وجهها متقلب، أخشى أنه يجب أن نسرع بها إلى أقرب مشفى. 
-24-
" يدبرون لي عذوبة المضي بالخسارة إلى ألقها. مباهين بسفن ليست لهم " --
جائتني حماتي مواسية، كنت أهذي تماماً وأرتجف، حاولت الوقوف كان محالاً، فهرولت تستعجله للإسعاف.
توجهوا بي لأقرب مشفى وفي الطريق سلمت حماتي بطاقتي الصحية خشية من أن لا أكون بوعي هناك.
رميت علبة الدواء التي كنت أحملها واحتفظت بالظرف.
لماذا فعلت ذلك؟ لست أدري. هل كنت أخشى كشف أمر تعاطي لتلك الحبوب؟ رغم أنه احتمال بعيد. على أية حال يظل إخفاء الشريط أسهل من إخفاء العلبة.
وكأني لا أضمن لنفسي النجاة مما قد يبيته لي من شرور. أتراني أظلمه؟ كنت أتمنى لو أنني أظلمه فعلاً. على أية حال، إنني أروي ما حصل وحسب. 
وصـلنا مشـفى راشـد (قسم الطوارئ) بإمارة دبي، انشغل زوجي بركن السيارة، فيما دخلنا متوجهين نحو الاستعلامات وإذ بالمناوب زوج إحدى صديقاتي التي تعرف شيئاً من قصتي:
بطاقتك الصحية.
إنها معك عمتي.
لا. لا أستطيع إيجادها، يبدو أني قد أضعتها.
لا أدري لماذا فعلت ذلك. لكن من حسن الحظ أن الأسماء هناك تدخل عن طريق الكمبيوتر فبمجرد إعطاء الاسم يظهر رقم البطاقة وقد كنت أحفظ رقم بطاقتي الصحية. 
شعرت بعدم راحة من موقفها على كل حال. أمرها عجيب هذه المرأة!
جلست على كرسي مُتحرك وتكفلت الممرضة بدفعي إلى غرفة المعاينة. رافقوني جميعاً وأنا بالكاد واعية. سمعت أنهم يسألون عن السبب في وصول حالتي إلى هذه الدرجة الحرجة.
دخل الطبيب المناوب، طالباً خروج الجميع:
لا تقلقي، زوجك قال أنك تعانين من ألم في البطن والرأس.
لا تكترث به لأنه آخر من يحس بآلامي، أسبوع وأكثر ولم يغمض لي جفن، مهما حاولت لا أستطيع، فلم أجد بداً إلا بتناول هذه الحبوب.
-  كم كان عدد الحبات؟
- خمسة، ستة لا أتذكر، فقد كنت أريد النوم.
قرر الطبيب إجراء فحص فوري للدم. وبعد ظهور النتيجة تقرر غسل معدتي.
كانت عملية شاقة وموجعة، وبعد ذلك ربطوا أحد شرايين يدي بكيس من المصل، ونقلوني إلى إحدى الغرف، وتركوني لأنام. ونمت أخيراً…
وهأنذا أشعر بالأمان، أكثر مما كنت أشعر به في بيتي: 
كم هو جبار، في اختلاق الألم!
-25-
استيقظت من النوم لأجد نفسي في مكان لم أره قط، مكان لا أعرفه ولا يشبه غرفة الطوارىء ولا حيث نمت.
رحت أسأل نفسي: "ما هذا المكان؟"
نهضت من الفراش وكنت أترنح من الإنهاك. اتجهت نحو الباب. ممر طويل على جانبيه غرف ممتدة، صدفت إحدى الممرضات:
أين أنا ومن الذي جاء بي إلى هنا؟ هل مازلت في مستشفى راشد، أم أنني صرت في مكان آخر؟
أنت في قسم العصبية سيدتي، الأفضل لو ترجعين إلى فراشك.
لم أصدق ما سمعت. هل تدهورت حالتي إلى هذا الحد لأكون في قسم العصبية؟! أتراهم ظنوا أني حاولت الانتحار؟ 
ربما أحالوني إلى هذا القسم بالذات كون الطبيب الذي وصف لي الحبوب من قبل يعمل في هذا المستشفى، وبالتالي فإن اسمي قد يكون موجوداً في سجلاتهم.
والآن ماذا أفعل؟ ما لي وهذا المكان الموحش بطقوسه وناسه ومرضاه؟ حتى أطباء القسم والمناوبون كل شيء مُختلف.
لماذا لا يأتي زوجي لزيارتي؟ اتصلت بصديقة لي وأبلغتها أني في المشفى وطلبت منها أن تتصل بأخي، وتبلغه بمكاني فأنا لا أستطيع أن أكلمه لعدم السماح باستخدام الصفر. رجعت إلى سريري مذهولة أرفض طعامهم. 
كنت خائفة جداً، فهذا المكان غير مريح. إنه يبعث النفس على الانقباض. ولا يترك مجالاً للشعور بالاطمئنان. كل شيء من حولي يدعو للاستغراب، تكورت على سريري، ورحت أتأمل كل شيء حولي:
ياإلهي! هذا المكان يرعبني ويخنقني. لم أعد أشعر بجسدي، تجمدت تماماً، وحده قلبي كان يتحرك، وضرباته تدق بشدة في أذنيّ. 
عيناي حائرتان في محجريهما تتحركان ببطء وبلاهة ذات اليمين وذات الشمال.
ضممت ساقيّ إلى صدري وعانقتهما بيديّ ووضعت رأسي على ركبتيّ داعية الله وطالبة العون.
مر الوقت ببطء شديد. نظرت إلى ساعتي:
أتوقف الزمن أم أن عقارب ساعتي قد تجمدت هي أيضاً؟! آه، كم الانتظار مضن!
صحيح أنني لم أدخل سجناً في حياتي، ولكن الجو هناك كان يشعرني بأني مجرد سجينة. سجينة من دون محاكمة ومن دون جريمة. غرف بلا نوافذ، فيها مجموعة من الأسرّة. كل سرير محاط بستارة تصنع غرفة مستقلة، رغم وجود صالة يسمونها (ترفيهية)، جهاز تلفزيوني يبث بعض البرامج المحلية، وهاتف للعموم كتلك التي في شوارع المدينة، مجموعة من الطاولات يلتف حولها عدد من الكراسي، حيث جلست بعض النساء يظهر أنهن من جنسيات مختلفة، شاردات، ذاهلات. وهناك ثمة باب من الألمنيوم يحتوي على زجاج من نوع خاص ـ غير قابل للكسر، يناسب الأطفال والمجانين ـ يفصل الصالة عن الحديقة، التي لا يوجد فيها أرجوحة أو حتى مقعد، لا شيء سوى بساط من العشب ينتهي عند سور عال جداً يصعب على مخلوق تسلقه:
ما قصة هؤلاء النساء؟ وهل جاؤوا بهن إلى هنا مثلما فعلوا بي وأصبحن شيئاً منسياً، أم هنّ بالفعل مريضات ولا يستحقن الحياة الطبيعية مع البشر الأسوياء؟
مشاهد لا يمكنني نسيانها:
ما قصة تلك المصرية التي تكلم دميتها؟ ربما فقدت طفلتها وعقلها في آن معاً. ما الذي جرى لتلك المرأة الهندية نصف المحترقة؟ هل اغتصبها سيدها فأحرقت نفسها بسبب ضياع عذريتها؟ وما الذي جرى لهذه المراهقة اللبنانية الصامتة أمام التلفزيون صمت القبور؟ هل عذبتها امرأة أبيها حتى صار هذا المكان أرحم لها من البيت الذي جاءت فيه إلى الحياة؟ وأنا لماذا كان عليّ أن أشاهد هذه المآسي كلها؟
عدت إلى سريري، وجلست أمارس الانتظار، ومن حسن حظي أن موعدي مع الفرج لم يطل أكثر من ثلاث ساعات. حيث حضر أخي مع والدي، الذي بقي صامتاً. كان ينفجر غضباً مني وعليّ، فقد أخفيت مشاكلي عنه طويلاً، رغم شعوره بأني غير سعيدة، صارحني بالأمر أكثر من مرة. كنت أنفي ذلك وأكذّب إحساسه. فأنا لا أرغب بتدخل والدي في حياتي الزوجية. لألّا أكون بين المطرقة والسندان.
طلب والدي من الممرضة أن تستدعي الطبيب، وبعد قليل حضر زوجي وعيناه منتفختان من النوم:
يالقساوة قلب هذا الرجل! منذ الفجر وأنا أتنقل وحيدةً وفي أشد الحاجة لوجوده معي، بينما هو غارق في النوم!
تغير لون والدي عند رؤيته، ولم يضبط ردة فعله إلا بأن غادر إلى خارج الغرفة. 
ربما ذهب يبحث عن الطبيب المناوب فقد تأخر في المجيء. تبعه زوجي، وأخي، ليعودوا وعلائم الانزعاج مرسومة على وجوههم، لقد وقع والدي على أوراق خروجي من المشفى.
عدنا إلى المنزل، وحضنت أطفالي بدموعي، وتساؤلاتهم تتعالى:
أين كنت، لماذا تأخرت، لماذا لم تأخذينا معك؟ 
ماما، أنا عرفت أنك بالمشفى، بس ما حسنت اتصل فيك. "رنا"
اشتقنا لك مام! "مرح"
ماما. ماما. ماما… "زياد"
ما عداهم الجميع صامت ولا أحد يتكلم، يمر الوقت، فيتكلم أبي:
ما المشكلة؟ 
رد زوجي على السؤال باقتضاب وعلى نحو بدا غير مقنع لأبي:
المشكلة بيني وبين غادة. وليس لكلينا الاستعداد للحديث بشأنها الآن.
ومن ملامح والدي قرأت الكثير من الغضب والأسف، لقد كان يوبخني وأخي من خلال نظراته الحادة، والاضطراب الذي يكسوه.
وجدتُني أعيش دوامة أخرى، كنت ضائعة تماماً، وسط غضب والدي وحيرة أخي مع حقد زوجي وسماجة حماتي، فيما صدى أنفاس أطفالي يشعلني.
كسر والدي الصمت مجدداً:
لم أتفهم قصدك من إدخال غادة إلى المشفى، ومن ثم إصرارك على إبقائها هناك، علماً أن التقارير لا تلزمها على ذلك كمريضة!
أتراه فكر في أن يحولني بفعل المكان إلى مريضة حقاً، لما سأتعرض له هناك بفعل الضغط النفسي والعزلة والمرضى، وبفعل تصرفاته، فأصبح من المقيمين فيه، كامرأة فاقدة للأهلية، بلا عقل؟
فكرت أن تبقى لغرض متابعة العلاج ليس أكثر.
غادة، أعطيني جواز سفرك، ستغادرين معنا إلى دمشق، فأنت بحاجة لأيام راحة وهدوء.
كان أبي يرواغ لعله يريد إنقاذي من المستنتقع الذي أعيشه.
لا أظنها فكرة مصيبة الآن، الأفضل تأجيل السفر، بسبب مدارس الأولاد.
معه حق، فهو حريص على بناته، فمصلحتهما فوق كل اعتبار، كذلك أبي له الحق في التفكير بابنته.
احتدم النقاش بينهما، وتوتر الجو كثيراً، ليصرح زوجي بعدم السماح بمغادرتي، وأنه سيحتفظ بجواز سفري لأنه كفيلي من جهة وولي أمري من جهة ثانية.
وصل أبي إلى ذروة الغضب:
لا يمكنني الأمان على ابنتي معك.
اخرج من منزلي، أو سأتصل بالشرطة.
وتطردني مهدداً.
احتقن الجو أكثر، تأملت من والدته التدخل للتهدئة لكني لمحتها تهرب إلى الهاتف لتجري اتصالاً، تبين لي أنه استنجاد بإبنها آخر.
من المفروض أن يتم ضبط الوضع، وخاصة أن شخصاً مثل أبي، وأمه كبيران في السن، ولفرض الاحترام والتقدير لمكانتيهما، وبحكم أن والدي ضيف، وأني مريضة، كان لزاماً على زوجي العمل على تقدير كل ذلك، والانسحاب قبولاً أو تهدئة مؤقتة، لكني رأيته يهرب خارج المنزل، مقفلاً الباب من الخارج.
تأزمت الأمور أكثر وهذا ما يطلبه، ما هي إلا دقائق حتى فتح الباب وهو بصبحة أخيه والشرطة.
هذا ما كنت أخافه، فخط العودة أصبح الآن شبه مستحيل، ولطاما عمدت أن أتجنب هذا الموقف، بدأ الصراع الآخر، بين من ملكني، ومن استملكني: أبي وزوجي.
خرجت الأمور من دائرتها الخاصة:
ها هم....هذا الرجل وابنه هاجماني في منزلي بغرض التعدي عليّ، وتحريض زوجتي.
احتدم الخلاف بينهما فطالب الشرطي بإثبات الواقعة فهو لم يتلمس أي آثار للاعتداء، لذا أمر بإحالتي على الفور إلى المشفى لإثبات واقعة الضرب، وتم تحويلهما إلى الشرطة، وما هي إلا ساعات حتى تم الانتهاء من عرض التقرير:
"تم إثبات تعرض السيدة غادة للتعدي من خلال آثار الضرب بواسطة حزام، وإصابات متعددة في أنحاء متفرقة من الجسم، مع ملاحظة إنخفاض في ضغط الدم، وتباطؤ في النبض"
وما إن خرجتُ مع الشرطي بورقة التقرير، وإذ بزوجي جالساً في الممر، يسند رأسه على الجدار، ظننت أنه تبعني ندماً ورأفة، علنا ننهي الخلاف.
كنت إلى هذه اللحظة أنتظر ذلك، لكنني كما كل مرة كنت مخطئة، كان قد تصنع جرحاً بإبهامه كسبب في طلب الشرطة، وكنتيجة لتثبيت اتهامه.
حينما وصلنا مخفر الشرطة كان الليل قد انتصف، فُتح محضر الواقعة، وتم إثبات جرم التعدي، وزوجي واقفٌ يتصنع الألم، فيالهذي الفكرة الشيطانية! وقد افتعلها لجر والدي  إلى مشكلة مع الشرطة كي تعطيه هامشاً للمساومة.
الجميع في المخفر، أبي وأخي وزوجي وأنا وأطفالي، لم أكن أعرف ماذا أفعل:
إما أن نحتجز طرفي الإدعاء حتى الصباح، لعرضهم على النيابة العامة، أو حل الخلاف والمصالحة الآن، ليعود الجميع إلى منازلهم، وغداً سنتابع دعوة التعدي بالضرب المثبتة بتقرير المشفى.
ما فاجئني أن زوجي تصنع الألفة، وانهارت عنجهيته، يبدو أنه أحس بورطته الكبيرة، فالتمس يدي يقبلها، مستسمحاً. نظرت أقرأ قرار والدي، وأطفالي ينتظرون قراري.
وحين باءت محاولته بالفشل أمسك رنا: 
ألم أخبرك أن أمك قاسية، فهاهي تزجني في السجن.
ليُقحم طفلتنا في الخلاف ويستغلها مجدداً كورقة ضغط، كانت ترتعد خوفاً بين يديه، مذهولة، خائفة من الحدث والمكان فكل شيء غريب عنها.
أمام دموع الأطفال، واستنكار والدي، تنازلنا عن الدعوة، وتمت المصالحة الشكلية، لكن والدي اشترط أن يحصل على جواز سفري.
وحال خروجنا من المخفر أنّبني والدي بقوة، وألح علي بالسفر معه والأطفال إلى دمشق فترة.
رفضت رغبته فمن سيتكفل بثلاثة أطفال يتعلمون في مدارس خاصة، ويعيشون في رفاهية؟
عدا عن الصعوبات الإدارية والقضائية الأخرى، فصعب أن اصطحب الأطفال دون موافقة والدهم.
أصبح هناك شرخ كبير بين زوجي وأهلي. كل منهما حاقد على الآخر، ونسوا جميعاً أني مع أطفالي من سندفع الثمن في النهاية.
عدنا إلى المنزل دون أي حسم أو انتصار أحد، ولكن وقع المشاكل لا يزال ثقيلاً في الصدور، وتتلاطق في ذهني كل الأحداث الأخيرة.
حل الصباح، وكان قد غادر إلى عمله. جلست وأمه، فبلغتني أنه لم يعد يرغب في رؤية أحد من عائلتي في منزله، وأنه لن يسمح بسفر الأطفال. وهو يعلم علم اليقين أنني لن أستطيع السفر من دونهم:
باسم من تعزين، ألا يمكنك كأم أن تعيشي ظرفي؟ وأن تحاولي توطيد العلاقة بيننا بوقفة حياد، فأنا مستعدة لسماع أية نصيحة تبدينها، حاولي اعتباري ابنتك.
كان موقف ضعفٍ أبنيه، وحالة استرجاء، لا لشيء وإنما لأن خيار أطفالي الثلاث دائماً موجود في صلب كل موقف.





كانت قاسية بحق، لم تنصف حلاً ولم تساوم، فهي نصفه الآخر تشاركه مشروع إبعادي عن أطفالي قسراً وتساعده في إعداد الخرائط لإنهاء المشروع.
انتصف النهار وأنا أنتظر عودة مرح برفقته، فهو بالعادة يعود بها من المدرسة.
تجاوزت الساعة الثانية ومرح لم تعد، اتصلت بالمدرسة استفسر ابنتي:
إنها ما تزال في باحة الانتظار بالمدرسة لوحدها، ولم يأتي أحدٌ لأخذها كما العادة.
خرجت مسرعة إليها، ولحظة حتى وجدتها برفقة إحدى الموظفات تنتظرني.
حل وقت الغداء دون أن يعود، خيم الليل ولم يتغير شيء، وجميعنا ننتظره، لم يتصل للاطمئنان على والدته حتى.
مهما حاولت اقناع نفسي بالتعود عليه، أجده يتشقلب ألف حركة، لم أكن بذات الحرص الكثير على زواجنا، أو عليه، فأنا بشكل أو بآخر فقدت ثقتي به.
-26-
"لا ليس أنا إنه غيري من يتألم، مثل هذا الألم ما كان في طاقتي واحتمالي" -آنا أخمتوفا-
ليس بالضرورة أن يكون الرجل رومانسياً كي يكون حنوناً، ولا جباراً ليكون قوياً، كنت أحتاج أن يشعرني بلمسات دفء تساندني ليس أكثر، لكن لم يتغير شيء، عاد إلى سابق عهده، لنصبح شيئاً مهملاً في حياته، كلما حاولت التقرب منه كان يصدني، حتى الأولاد فقد بدؤوا يتذمرون من إهماله، استمرت حالتي بالتدهور، وأنا أعاني من الشرود وعدم القدرة على النوم أو الهدوء.
ابلغتني رنا بأن خالها روان على الخط:
غادة سنمر أنا ووالدك بعد ساعة لاصطاحبك إلى الطبيب.
فوجئت بالموعد، ورفض أخي إخباري بشيء، عن أي طبيب يتحدث؟ ذهبت استئذن  حماتي:
سأخرج برفقة أخي في نزهة ولن نتأخر، وقد كلمت المدرسة بشأن ترتيب عودة الأطفال.
أنهيت أعمالي المنزلية، وخرجت لمقابلته بعد اتصال ثان.
أين أبي؟
لقد غادر لرؤية المحامي رامز.
لم أكن على دراية بموعدي مع الطبيب، ولماذا المحام الآن؟
عادت الأفكار ترنِّح بي، وأدركت أن أبي يخطط لأمر ما، فهو ليس من الذين يمكنهم نسيان الإهانة، أو تناسي مشاكل أولاده، فأنا الخبيرة بشؤونه وشجونه.
بجميع الأحوال ولطالما أن والدي موجود فأنا مستسلمة لقراراته، فسحره  الذي مارسه علي هو الذي أوصلني إلى هذا المنعطف الخطير من الذل والانتهاك لكرامتي كإنسانة.
يبدو أنه قد زار كل الأصدقاء، ولم يجلس منتظراً أو مستنتجاً، ليتيقن تماماً بأني أعيش جحيم هذا الرجل.
فتوقعت أن يتخذ الخطوة التالية، والتي عجزت عن اتخاذها، وفي الفيض الآخر كان مصير أطفالي يترنح في سماء أفكاري، فبقائي مصيبة، ورحيلي مصيبة، وكل شيء يتفاقم كنت أطحن بين رحى أطفالي وطلاقي بألم ما فوقه ألم.
بعد أن فحصني الطبيب، كتب تقريره عن تدهور حالتي:
للأسف حالتها تسوء، ووضعها النفسي معقد.
أخيراً تكلم روان:
والدك سيعيدك إلى دمشق، إنه يخاف من بقائك هنا.
وأطفالي!....يستحيل أن اتركههم.
غادة أرجوك، سهلي الأمر علينا، واحفظي ما بقي لنا من كرامة، إنه يرفض وجودك في منزله، وأمس كانت مكالمته أكثر من قاسية، يجب أن تكوني قوية.
دقت ساعة اتخاذ القرار، ووصلت الأمور إلى حسمها.
فها هو زوجي يربح معركته في إهانتي والتنكيل بي، وسلبي أطفالي، وها هي حماتي وابنتها تبعدانني من عائلة ما دامت رفضتني فيها.
وذلك أبي يعلن معركته ضده، راغباً في إعادتي إلى مملكته، وهذا أخي يريح نفسه من هم الوجود معي في كل لحظة إشكال، وأطفالي فظروف حياتهم هنا أفضل. وهأنذا في بحر كل ذلك أخسر كل شيء، ليربح الجميع.
ومتى يكون الرحيل؟
والدك سيحجز على أول رحلة إلى دمشق، ولحينها ستبقين برفقتي.
لم يستشرني حتى، ما كنت سأعارض بجميع الأحوال، وإنما كنت سأشعر بقليل من القيمة والرأي، أما ستنتهي هذه السيطرة هنا وهناك؟
لن أغادر قبل توديع الأطفال
عدنا المنزل ضممت زياد إلى صدري وبكيت بحرقة. ياإلهي! لماذا يحدث كل هذا؟ تركت ابني وروحي تلتصق به.
غادرت المنزل دون أن آخذ شيئاً معي، لأني لا أريد شيئاً يذكرني بأيامه.
ذهبت إلى المدرسة. ربما التقي البنتين قبل انصرافهما بالباص، لكنه كان قد غادر منذ دقائق. عدت مسرعة في طريق الباص، ووصلت البيت وأنا انتظره أمام المدخل.
وعلى ما يبدو أنهما قد أصبحتا داخل المنزل، فسيارته مركونة في الكاراج، ولن أدخل مجدداً ذلك الدار، لقد أستقويت بقرار والدي وأخي. 
لست أدري إن كنت محقة فيما فعلت، لكنني شعرت بالموت يعيش جسدي بحياة، بدأ يزحف من قدمي إلى ساقي وإلى جسدي كله، ثم إلى روحي.
إلى أين يأخذني أبي؟ 
همه الوحيد أن أترك البيت، لينتقما من بعضهما من خلالي، فأنا السكين التي سوف يذبح كل منهما بها الآخر. في وقت كلاهما فيه يذبحانني.
-27-
عن المنفلوطي: "لا سبيل إلى السعادة في الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيها حراً مطلقاً, لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره أي شيء"
التاريخ هو الثاني عشر من اكتوبر 1998، وهو اليوم الذي كنت فيه متحررة من سلطته، بقرار جريء.
للحقيقة، كثيرة هي الأسباب التي دفعتني لأخرج من أسوار زواجي به، قليلٌ منها شخصي جداً، ومحزنٌ لأتحدث عنها.  والجزء الأكبر منها مرتبط بشكل أو بآخر به. وهذا ليس بغريب، فالزواج مؤسسة مبنية بالأساس على اتجاهين قد يتحدان أو يختلفان لحدود.
"الإختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء"
وهنا لا أجد من الملائم مناقشة مشاكلي معه. حتى إن عرجت على بعضها في معرض حديثي سابقاً، فأنا لن أطلب من أحد التصديق بأنني قادرة على رواية قصتنا بشكل موضوعي، وبالتالي لن أحمله كامل أسباب فشلنا. كما أنني لن أناقش أسباب موافقتي على الخطبة منه وأسباب افتراض حبي له، ومن ثم زواجي به، وإنجاب ثلاثة أطفال، وعدم قدرتي على تخيل الحياة من دونهم، لن أتطرق إلى أي من ذلك، بل سأكتفي بالقول: إنه في تلك الليلة كان ما يزال مصدر سعادتي وتعاستي بقدر متساو، فالأمرّ من الرحيل كان البقاء، والأفظع من البقاء كان الرحيل، لم أكن أرغب في تدمير أي شيء أو أي أحد، لم أرغب سوى بالتسلل بهدوء من دون أن يكون لرحيلي أي جلبة أو عواقب والركض من دون توقف.
فكل شيء في النهاية، يتحد في شيء واحد جميل، وأنا كنت مدركة تماماً، بأني سأعيش خيارين، لا ثالث لهما: إما أن أختاره كما هو مع أطفالي، أو أن أختار الحياة الأخرى بدنه، ودونهم.
طيلة تلك الفترة والدموع لا تبارح سيلاً خدي، كانت تسربل شرايني، كنت أحس بحرقة، وساعة تغفو عيناي كنت أستيقظ مذعورة.
كانت السيارة تنقلني بعيداً عنهم صوب إمارة أبو ظبي ومطارها، وعيناي تغرقان في الطريق ومده...أفكر في اللا شيء.
حملتنا الطائرة بعيداً لاتذكر أول رحلة لي وقولي لأمي عن السكن في السماء، وكنت أرجع طفلة صغيرة إلى المدرسة لبنى وأزقة الحي، كنت محط تطلعات أغلب الركاب، يبدو أن في ملامحي كثير من الإرهاق، فوجهي شاحب. وعيناي أصابهما الذبول، ويداي ترتجفان من التوتر، كم رغبت في البكاء والعويل، فنفسي تكاد تنفجر غيظاً من نفسها. ولكن لا أملك ألا التجلد، وكنت ألوك كل ذلك جرعات سرطان إلى داخلي وأتحملها بصبر وعذاب دفين.
-28-
عدتُ حيث بدأت أولى خطواتي كسيرة النفس، محرومة الأطفال، في المطار كان بانتظارنا أخي الكبير أمين، وأختي عبير وزوجها. لم يسألوني عن شيء. الموضوع واضح جداً، ليس معي سوى جواز سفر فقط. 
فوجئت أمي برؤيتي حتى أجفلت، صمتت طويلاً قبل أن تضمني إلى صدرها حيث راحت تبكي. كانت تلك أول مرة أرى فيها أمي تجهش بالبكاء إلى هذا الحد، لم يخبرها أحد بشيء، ولكنها قرأته من تأملي:
كم أشتاق إلى النوم في حضنك أمي، أنا متعبة للغاية، لقد أخذوا مني أطفالي...أخذوهم مني.
فقدت وعي وقبل ذلك استطعت قراءة دموعهم جميعاً.
بقيت مضطربة، قلقة، متوترة، لم أستطع الهدوء لدقيقة، مضت أيام دون أن يحدث أي شيء، كنت أنظر الهاتف وأنتظر من رنينه أن يحمل خبراً ما، أو أن يحمل أي  بادرة حسن نية، أو ندماً من قبله لأعود، ولكن عبثاً.
قررت اللجوء لأحد أصدقاء زوجي في إمارة أبو ظبي، كلمته طويلاً عن مشكلتي، وتوسلت إليه أن يساعدني في تجاوزها:
سأسافر الخميس لزيارته، وسأبذل قصارى جهدي.
أيام مرت، حتى اتصل بي:
للأسف زوجك رفض أي مساع  واعتذر.
مر أسبوعان ليتصل زوجي كانت أمي من رفعت سماعة الهاتف:
اسمعي، إن لم تعد ابنتك خلال أسبوعين، فستصلها ورقة الطلاق، وسأحرمها من رؤية الأطفال مدى العمر.
 لم يبدِ أي تصرف احترام حتى لمنزلة والدتي، كيف لي أن أعود تحت أوراق التهديد، وسياط الوعيد، كيف!؟
يتصل قاطعاً سبل الحل، ورغم ذلك ظل الصراع ذاته يدور بين عقلي وقلبي:
إنه لا يريدك وإن عدتي، فسيكيل بك ويرميك، انتقاماً!
يجب أن تعودي، فأطفالك يصرخون في طلبك.
كنا في أواخر رمضان، وكنت أتمنى لو أقضي العيد مع أولادي.
تواصلتُ مع رنا من خلال هاتف المنزل حيناً، والمدرسة أحياناً، كانت تحرك مشاعري بمكالماتها، وهي تطالبني بالعودة كي نقضي العيد معاً.
مر الشهر، ومع كل اتصال كنت أجد راحة، وهدوءاً، فأطمئن عليهم، وأعيش يومهم بالتفاصيل.
جاء العيد فقضيت ليله باكية:
"عيدٌ بأي حال عدت يا عيدُ!"
إنه أول عيدٍ يمر دون أن نكون معاً، وكم صعب قضاء ذلك! الكل برؤى الأهل والأحبة سعيدون، إلا أنا المحرومة والبعيدة عن أطفالها.
صباحاً، ومع شروق الشمس، وضجة العصافير على شباكي تطلعت شرقاً، وقلبي ينفطر اشتياقاً لهم، أتراهم سيعيشون العيد هذا العام؟
فر عقلي من لهيبي مثل باز في عقاب، زاب روحي مثلما انحل في نار جلد
دمع عيني من بكاء في سكوب نار قلبي في هواه مثل نار في الحديد
اتصلت بوالدي:
أبي أستسمحك أن أعود لأطفالي!
أغلق السماعة في وجهي رافضاً، كنت أريد العودة بأي ثمن كان.
اتصل والدي بعد قليل:
سأوافق على عودتك، ولكن بضمانات!
مر يومان، فاتصل أخوه الأكبر يطلب عودتي، ومنتظراً أن يكون قراري حكيماً لصالح الأطفال الثلاث:
المرأة هي التي تصفح وتسامح وتتنازل.
هكذا يفكر الرجل الشرقي.
هل زوجي من طلب تدخلك؟
لا، لم أخبره بأي شيء
والدي يرفض أن أعود إلا بضمانات، واعتذار من زوجي.
لقد أصبحت بين مطرقةٍ وسندان مجدداً: لست راغبة بالعودة إليه، ولكن الأطفال خيار مرتبط به.
هو يرفض الاعتذار، وقبول أن أعود بكرامة.
ووالدي يرفض أي خطوة تقارب إلا بضمان حفظ كامل حقوقي، مع تعهدات من قبلهم، وهذا ما لن يتم.
لم أكن أريد التفريط بشعاع النور هذا، لذا رجوته التواصل مع والدي.
فاتصل به، وعلى ما يبدو أن والدي كان قاسياً معه، وحمله كل أخطاء أخيه، فاتصلت بوالدي وكلي أمل أن تهدأ النفوس، ورجوته بأن لا دخل له بتصرفات أخيه فرد:
لعنك الله غادة، ولعن الساعة التي ولدت فيها! أعطي السماعة لأمين:
أختك تستزيد في إهانتنا، دعها تغادر الى الإمارات، ولكن أخبرها أني متبرّئٌ منها.
ما بات واضحاً –إذاً- أن ثمن عودتي بات منحصراً بمقاطعة عائلتي، وهو شرط متبادل.
الحياة في بيته ما هي إلا لتربية الأطفال والخدمة. ومن يضمن لي تلك الحياة؟ ربما يأتي يوم قريب، ويلقي بي إلى الشارع .
رغم أن بقائي هنا خسارة أخرى، فكل من الرجلين احتفظ بأولاده وانتهى الأمر.
-29-
أكثر ما يتعب الإنسان هو وقوفه في مكانه، كانت الأيام تمر صعبة علي، والوقت يمر وئيد الخطا.
فكرت بالعودة إلى الدراسة، لكن كان صعباً أن أتمكن من ذلك، لن أدخل مجدداً معركة خاسرة. 
فكرت بمعهد حرفي للتجميل، لكن والدي وكما توقعت رفض ذلك، رغم حاجتي الماسة للعمل، ففيه قد أنسى همومي، فلم يتبقَ لي إلا مرسمي أقضي فيه معظم الأوقات، استحضر الذكريات، أحاول جاهدة قتل الكثير منها بريشتي والألوان.
 

-30-

"الأمل في حد ذاته نوع من أنواع السعادة ، بل قد يكون أكبر سعادة يمكن لهذا العالم منحها" - صمويل جونسون -
في 9 إبريل من العام 1999، رأف والدي لحالي أخيراً، ووافق أن أسافر إلى الإمارات برفقة أمي، هذا عدا عن أن أوراق إقامتي كادت تنتهي وكان من الواجب تجديدها...مرت خمسة أشهر على مغادرتي:
لربما أستطيع فعل شيء ما، ولربما أن النفوس قد هدأت. أنا الآن قريبة، ففي دمشق لم يكن بمقدوري فعل شيء.
كان روان بانتظارنا في الشارقة، لم أستجب لرغبته في أن نرتاح، وإنما فضلت أن نسافر إلى أبو ظبي، حتى استقليت سيارة أجرة إلى مدرستهم، فهي أضمن طريقة للقائهم.
-31-
أسوء مكان في الجحيم لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة" - مارتن لوثر كنغ -
ما توقعته من عائلة زوجي هو كلمة حق تقال في قصة خلافاتنا، أحياناً يحتم الظرف أن نتغاضى عن الحقائق، أو أن نخفف من وطأتها، بغاية تليين المواقف والعمل على تقريبها في حل وسطي.
وحالما وطأت قدماي أرض الإمارات تعمدت الاتصال بهم، علنا نتعاون على إيجاد حل يحفظ ماء وجه جميع الأطراف.
كيف استطاعوا تجاهل مشاعر طفل يطلب أمه، وتجاهل مشاعر أمٍ تحترق شوقاً لهم؟! 
أين دور تلك الأم الكبرى (حماتي) في التأثير على ابنها؟ أليست هي أدرى الناس بأن الطفل في حاجة إلى حضن أمه؟ وبأنه من الظلم أن يمنعه أبوه عنها؟
صعبٌ جداً أن تقنع أطفالاً بغياب أمهم، وأن تحرمهم حنانها، والأصعب أن تمنع الأم عن أطفالها
بأي حق يفرض ذلك الأب حكمه بمنعهم من التلفظ بكلمة (ماما)، ربما استطاع ذلك ولكن هل سيتمكن من منعهم من تذكرها من خلال صورة مخبأة لها أو حلم يزورهم كل مساء، فالأطفال الذين يعانون من نقص باكر في الأم ستولد عندهم عقدة نرجسية أساسية، وسيحاولون بطرق ووسائل متنوعة ومتعددة الحصول على حب الأم حتى ولو كانت سلبية، لدرجة يصل مداها إلى تهديد بقاءهم سليمين.
إنها علاقة دم وحب فطري أبدي لا يمكن أن ينتهي مجرد أن أشخاصاً يريدون ذلك.
-32-
"الزمن، بطيء جداً لمن ينتظر، سريع جداً لمن يخشى، طويل جداً لمن يتألم، قصير جداً لمن يحتفل، لكنه الأبدية لمن يحب"
(وليم شكسبير) 

تجرعت الانتظار والآلام تحتفل في صدري وأنا أخشى أن أفقد أطفالي للمرة الأخيرة، كنت أرغب أن تنتهي قصتي خيراً، وبنهاية هندية التمثيل.
لعل المدرسة هي الفرصة الوحيدة المتاحة للقائي بهم، وفي الصباح الباكر انطلقت حاملة هداياهم التي قد ابتعتها من دمشق، في الطريق اعتراني شوق عامر، وسعادة وغبطة لم أعهدها منذ شهور.
جاءت رنا، كانت متعبة للغاية، حضنتها، عصرتها في ضلوعي بعنف، ونحن نبكي بعضنا.
إنها جلبة مرح المشاغبة، ودندنتها، فُتح الباب ودخلت لتقف على بعد خطوات:
تعالي مروحه.
أحسست بمدى اشتياقها، والدموع في عينيها، ركضت تجلس في حضني وضمتني، وراحت تقبلني كما كانت تفعل دائماً.
تلك الشقية أخذت تسألني ماذا أحضرت لها، وراحت تفتش في حقيبتي وأكياس الهدايا.
بقيت معهما لبعض الوقت، وكان يجب أن أغادر مفسحة لهم فرصة العودة لمتابعة دروسهم، سألت أيضاً عن زياد، وأخذت عنوان حضانته.
كان الوداع أصعب جداً من اللقاء، ولكن قبل ذلك اتفقت ورنا أن أزورهم في المدرسة كل ثلاثاء في نفس التوقيت، وكتبت لها أرقام هواتفي.
كانت أكثر من حزينة ومنكسرة النفس مثلي لعدم عودتي معهم إلى المنزل، فيما مرح ظلت ملتهية بالهدايا التي أغدقتها عليها.
اتصلت بأخي وتوجهت مباشرة إلى حضانة زياد، شرحت الموضوع للمديرة، وأريتها صورتي معه، أخبرتني بوجوده في الحديقة الخلفية. دخلت الحديقة، عرفته من بين الجميع، فهو مميز بشعره الأشقر وبشرته البيضاء وخديه الحمراوين. رأيته من بعيد. كان يجلس وظهره لي. اقتربت منه، قائلة: 
زياد! 
التفت إلي ذاهلاً. ظل يحدق فترة. مددت له يدي :
تعال إليّ حبيبي، هل عرفت من أكون؟
أعطاني يده قائلاً وهو ينهض مسرعاً: 
أنت ماما
حملته وضممته إلى صدري ورحت أبكي بحرقة وضربات قلبي تطرق زنزانة صدري بشدة. لم أستطع تمالك نفسي من البكاء فعاطفتي تجاهه كبيرةً جداً وشوقي له أكبر، أخي صديق لزياد منذ أن كان الطفل رضيعاً، وهو متعلق به كثيراً مثلي، لذا فقد تذكره بسهولة، حتى إنه راح يطالبه ملاعبته كما كان يفعل من قبل، ودعتهم تاركة ما تبقى من روحي في دموعهم، سلمته الدراجة التي اشتريتها له.
عدت إلى الدار وشعور مختلف يعتريني من سعادة ممزوجة بحزن عابر، فلقائي اليوم بهم قد أعاد إلي التوازن قليلاً، دخلت المطبخ ولم أخرج منه إلا بعد أن أجهزت على كل ما فيه من طعام، وأخي يضحك على نهمي، حل المساء لأقضي أمسية جميلة، وأنا أنتظر أن يعود الثلاثاء مجدداً لأسافر إلى عصافيري.
جاء يوم الثلاثاء، موعد لقائنا التالي، ذهبت إلى الحضانة فلم أجد أثراً للصبي الصغير. 
سألت عنه المديرة:
للأسف لم يعد منذ الثلاثاء الفائت، يوم زيارتك، وكإجراء نتخذه في مثل هذه الحالات قمنا بالاتصال برقم عائلته، فأكد لنا والده أنه لن يعود للدوام مرة أخرى.
على الفور انطلقت إلى مدرسة رنا، جائتي بعد دقائق، وهي ترتعش خوفاً:
لقد هددنا والدي بأنه سيمنعنا عن المدرسة، والخروج من المنزل إن التقينا بك، لقد منعني من مدرستي ليومين حتى تدخلت جدتي.
وزياد.
وبخني أيضاً لأنني أعطيتك عنوان حضانته، فأرسله إلى بيت عمي نضال في رأس الخيمة، كما وأنه سلب منا كل هداياك. 
إنه ما يزال كما هو، لم يستطع كبح جماح لا إنسانيته، فتصرف بقسوة حتى مع الأطفال. مهما كان من خلاف بيننا فإنهم أطفالي أيضاً، ويحق لي -كما له- أن أكون برفقتهم وأن أزورهم.
حاولت الاتصال ببيت أخيه للاطمئنان على زياد:
كيف حالكم، هل أستطيع مخاطبة ابني زياد؟
سأدعك تكلمينه، ولكن أرجو ألّا تتصلي مرة أخرى.
أحزنتني بردها القاسي، هي أيضاً امرأة مغلوب على أمرها، تخاف المشاكل، ومؤكد أنهم حذروها من مغبة التواصل معي، وهناك من تراقبها، فأخت زوجها تسكن معهم.
علمت أنه ينوي السفر بهم إلى الخارج، وأمام انعدام فرص أي حل، قررت رفع دعوى حضانة لمنع السفر.
 بعد أسبوع حظيت بمقابلة السفير الكندي، وشرحت له عن دعوى الحضانة التي رفعتها قبل أيام في المحكمة، وما هي إلا أيام حتى صدر القرار:
"ما دام الزواج ما يزال قائماً فإن مكان الحضانة هو بيت الزوجية، وإن مكان المحضون هو البلد الذي يقيم فيه والد المحضون ولا يسمح بالسفر إلا بإذن منه"
أما بالنسبة لمنع السفر: 
"للأب حق السفر بالأولاد إذا كان سفره (سفر نقلة) وليس للأم الاعتراض على ذلك"
وبالنسبة للنفقة:
"الحكم بالنفقة مرتبط بالحكم بالحضانة ولم يتم الحكم بالحضانة لذا فقد تم رد الدعوة"

-33-
"نــمّـقـت إلى بـابك -يا قـــــرة عـيني- بالدمع كـــــتاباً
أشهدت طل الورد مــدادي ودواتي. سل من عبراتي!"
-ملا الجزري-
ثلاثة أشهر مرت على وجودي هنا، دون أن أجد إلى الحل أي سبيل، استجمعت قواي في فكرة الذهاب وزيارتهم في المنزل، خاصة أن المدارس كانت قد أقفلت أبوابها إيذاناً ببدأ عطلة الصيف.
لم توافق والدتي بداية، وأمام توسلاتي وألمها علي كأم قبلت خوض المغامرة معي، رغم تيقننا بأنه لن يكون بمستوى القيم والأخلاق المطلوبة، لكنهم أطفالي، ودمي يجري في عروقهم.
 وصلنا والوقت صباح، وتقصدت أن اختار فترة غيابه عن المنزل:
أنا أمك رنا، افتحي الباب، قد جئت وجدتك.
استطعت قراءة دموعها، ورياح شوقها، وقراءة الضجة التي خلّفها صدى صوتي حينما تدافعت مرح وزياد في طلبي.
والدي هددنا بعقاب شديد، ولا أستطيع فتح الباب، أمي...لن تتصوري كم يعاملنا بالسوء حينما نأتي على ذكر اسمك.
حاولي الاتصال به، وأخبريه عن رغبتكم في رؤيتي
فعلت ذلك مرح قبل قليل، لقد انهال علينا بالتوبيخ، وهددنا مجدداً.
كان المشهد دراما حية، يفصلني عنهم باب هنا، وألف باب وباب هناك.
تحت إلحاحي، استجابت رنا وفتحت الباب على نحو ضيق. لم ترفع السلسلة المعدنية خوفاً من عودته فجأة، طلبت منها أن تمد يدها عبر شق الباب كي ألامسها.
على صوت الطرق والكلام، فتحت جارتنا بابها مستفسرة:
أهلا بعودتك غادة، تفضلي بالدخول! 
قد سمعت صلواتي وبكائي.
عرضت الجارة مساعدتها واتصلت بزوجها كي يتصل بزوجي: 
وافق أن تلتقي أطفالك ولكنه اشترط أن يكون حاضراً، وأنه سيعود ريثما ينهي عمله.
مر وقت ليس بطويل، لأسمع صوت الباب يفتح فيغلق...لقد عاد إذاً، من خبرتي أعرف أنه كان يكذب حين وعدنا برؤية الأطفال، لقد تهرب بحجة أنه مشغول.
ربما كان يخاف أن أخطف الأطفال بشكل أو بآخر؟! وكيف أخطفهم وأنا أم لهم، ولا أزال زوجته.
انتظرت لساعة دون أمل:
لقد أخبر زوجي أنه لن يستطيع العودة اليوم لانشغاله.
ولطالما كنت أكره الكذب إنها صفة تلازمه، حملت نفسي واجتررت آلامي وحنيني، خرجت من منزل جارتي شاكرة، ووقفت لدقائق أرن جرس الباب، لا صوت...لا حركة.. والإعصار في قلبي، وأنا أشعر بصدى أنفاس صغاري وسيل دموعهم.
أعلم أنه خائف من مواجهتي، يعلم أني سأعود لمرة أخرى، وأخرى، وسيستغل ذلك لتعذيبي أكثر وحرق ما تبقى مني، لكن مهما احترقت يبقى داخله مظلماً.
مرت الأيام لأتصل بأم إحدى صديقات رنا، أسألها إن كانت قد زارتهم، رغم أني لم أكن أعرفها في وقت سابق، لكنها كانت أكثر من طيبة، ولأنها أم وإنسانة فستقدر مشاعري:
مرت فترة ولم تزرنا رنا، لكني سأرتب لقاء بينكما، فعيد ميلاد نغم الخميس، وسأحاول دعوة أولادك أيضاً.
وصلت مع أمي الشارقة باكراً، وتجنباً لأي شك أخفيت سيارتي بعيداً:
أخبرت ابنتك رنا بالخطة، وفرحت جداً، ولكنها ظلت خائفة من قيام أحد إخوتها بإخبار والدهم، لذا فمن الأفضل أن يقتصر اللقاء بها فقط.
حرمانٌ آخر بطعم اللقاء، وعسلٌ ملونٌ بالسم، وجرعة أخرى من الحنظل.
دخلت غرفة نغم لأنها تقابل الصالون، فضيوفها بدؤوا بالمجيء. معهم الحق في إبقاء اللقاء سرياً، لقد بدأت أشك بكل شيء، حتى في كوني أماً، ومن زاوية الباب استطعت رؤية أطفالي الثلاثة وهم يدخلون في أبهى حلة.
فر قلبي من لهيبي ووقع يرقص طرباً، وفاضت دموع السعادة من عيوني، وطارت نفسي إليهم اشتياقاً، وكاد يسقط قلبي تحت أقدامي من شعور ممتزج بالتملك والفقدان.
"يا رامياً..
تحدثت مع رنا كشابة بدت أكبر، تناقشنا طويلاً في كثير من الأمور، كان رغبتها استمراراً لرغبة إخوتها في ضرورة عودتي إليهم بأسعر ما يمكن. سألتها عن تصرفاته معهم:
بالكاد نراه، وكأننا في منزله مجرد أرقام يحذفها ويضيفها هو، لا يسأل عنا، أو يهتم بنا، دائم التهديد، كثير الشكوى، والعصبية.
اهدتني رنا أرنباً ما أزال أحتفظ به، وهو من أغلى ممتلكاتي، أخبئه في مكان أمين، وكلما وقع تحت يدي تذكرت ذلك اليوم وتلك الحفلة، واللحظات الصعبة، فلم أستطع لقاء مرح وزياد.
اتفقنا على استمرار التواصل من خلال نغم وأمها، لكن بحذر شديد، كانت نغم من تتصل لتخبرنا بتوفر الظرف المناسب، أو كانت تتصل بي لتخبرني بحاجة رنا للحديث في أمر ما.
اعتبرت نفسي قد حققت إنجازاً في قدرتي على بناء خط تواصل بيني وبين رنا، ومن خلالها كنت أصل إلى إخوتها ولكن دون تواصل، كانت غايتي أن أكون مطمئنة عليهم ليس أكثر.
تجنباً لأي فضح لتواصلنا كنا نحترس، فلم تكن تتصل بي من أي هاتف لهم خشية تسجيل الرقم أو المكالمة، وبقينا على هذه الحال طوال صيف1999.
-34-
"من القساوة أن يكون لإنسان سلطة على إنسان آخر، وأن يستغلها في استنزافه"
صعب أن أتمكن من ترجمة مشاعر أم مبعدة عن أطفالها، ومدى الألم والشوق الذي يستنزف مشاعرها.
عشت حالة هلوسة، واعترتني رغبة جامحة للقائهم، لأتجاوز حاجز المهابة، وأتشجع بالتوجه إلى البيت مباشرة، حيث كان الوقت حوالي الحادية عشرة صباحاً، وفكرت أنه لن يكون موجوداً فيه.
اكثرت من طرق الباب دون رد، لأتفاجأ به يقف قبالتي فاتحاً الباب، ليتفاجأ هو أيضاً، لم يكن يتوقع حضوري مجدداً. لم نبدِ أية علائم تضاد. دعانا للدخول. تسمرت في مكاني واقفة. كسرت أمي الصمت، ودفعتي:
ربما يكون اللقاء ندماً، أو كإنذار لما هو قادم. 
دخلت على مضض، فاستقبلتني رنا بشوق فائض، ونامت لدقائق في حضني. كنت أشفق عليها، ماسحة وجنتيها بباطن يدي، لمساً رقيقاً متأنياً، فيه كل الود والحب، وأقبلها:                                                                           
أتمنى لو تكون مفاجئتك الجميلة هذه دائمة.
أين زياد ومرح؟
مرت دقائق، وإذ بزياد يترنح متمايلاً كمصروع من تأثير النوم، ركض إلي بمجرد أن لمحني، وضممته بشوق، وقُبل، أعطيته قطع الحلوى التي يحب، وهدأ بركون في صدري، وجاءت مرح تهرول كعادتها صارخة فهي الأكثر شغباً، بدأ صراع بينهما على احتلال مكان في حضني، رتبتهم معاً كما كنت أفعل دائماً، ونظرت إلي رنا بعيون سائلة:
اشتقنا إليك، ماما.
استطعت مشاهدة دموع عينيها، ولأنها الأكبر فوعيها يدلها على أن فرص بقائي معدومة، وأني هنا للوداع الأخير:
رنا اذهبي واجلبي لأمك تقرير المدرسة عن الأشهر السابقة، ودعيها تقرأ مستواك!
ارتعبت الطفلة من صوت أبيها، وركضت تحضر التقرير، وأعطته خائفة، فأمسك به، ووضعه في وجهي:
انظري إلى مستواها الضعيف.
تصورته كجدار يقف في وجه ضوء النهار، وما أقساه، ربما نحتاج عمراً كي أنقب فيه ثغرة لأمر إلى أطفالي، وحياتي المرهونة بهم.
يحملني سبب كل شيء، حتى تراجع مستوى الأطفال، فأنا متأكدة من أنه تقصد تغييبهم وإلهائهم عن فروضهم المدرسية، ليصل إلى هذا الموقف، شعرت بالخوف من أن يهجم علي، فأنا الآن فريسته التي يريد الانتقام منها. حتى أمي لا أدري ما الذي أصابها، لم تنطق بكلمة واحدة، ربما انعقد لسانها.
عادت حالة الهياج تسكنه، وتعالى صراخه، ارتجفت رنا رعباً، فيما التصقت مرح وزياد في صدري وكأنهما يرغبان في الانسدال إليه، أي أب يخيف أطفاله ويقسو إلى هذا الحد!؟ تذكرت مشهد حمله للسكين وتهجمه، يومها كان زياد بعمر ثلاث سنوات.
وبينما هو ملتهٍ بجمع الهداية، اتخذت طريقاً لمغادرة المنزل، فتبعني:
 - لا نرغب في أن يبقى شيء منك هنا، خذي هداياك.
- هؤلاء العصافير الثلاث أليسوا جزءاً من جسدي وروحي، دعني آخذهم معي إذاً.
همه أن يحطمني، ويضاعف ألمي في كل ردة فعل، فحقده يكاد يقتله وهو يتسرب من تفقع عينيه واحمرار وجهه، وامتلاء شراينه، ومن سلاطة لسانه، وددت أخذ أطفالي معي، فهم يرغبون أيضاً في تركه، لكنه علمهم الخوف فهذه ثمار أشهر غيابي عنهم.
ألا يحسب لأن يكتشفوا في الغد أفعاله، وكيف ستكون نظرتهم إليه؟
أيمكن إخفاء الحقيقة؟ لا أدري كيف يعيش مآسي وكذب ماضيه، وهو يقرأ كلماتي المسربلة بفكر الحقيقة، وذاكرة الأيام المُحترقة، والتي ما تزال تحترق.
أتراني كنت سأتخذ ذاك القرار، لو كنت أعلم أني سأعيش متجرعة كل هذا الألم الصامت بصرخات اليأس؟ كان يجب أن أبني لذاتي مقبرة خاصة أدفن فيها أخطائي، علّ نفسي تهدأ قليلاً.
أخبروه أنه نجح في الانتقام مني وتحطيم حياتي بأكملها.
أخبروه أني أقاسي شرراً من الآلام، وأن الفراق حرق قلبي، وأن جروحي تكتوى كل يوم، وأن أفعاله كما سهم حارق يخترق جروحي، إني أعيش يومي بعام ألم.
قد يخال أن نصوصي هي محاكمة من طرف واحد، وأني فيها أتجني تزويراً للأحداث، ولكن صاحب النص الذي أخذ دور البطولة فيه ستصله كلماتي، وستحفر جزيلاً في ذاكرته، نزيفاً وأحداثاً.
هو لن يتهمني مجدداً لأن الكلمة تظل صادقة ولأنها وسيلتي في نشر الحقيقة.
نعم، أنا –هنا- بالكلمات أشن حربي، وأعيد الأحداث إلى مجراها والكذب إلى صوابه، وبها أختم سلاسل ذاكرتي وأفرغها على الورق.
أكتب ذاكرتي في رسالة وأضعها في قارورة الأيام، راميةً بكل مشافهاتي من بوابة السماء إلى حيث يمكن أن تصل، أكتبها رسالة في قارورة تحمل تاريخاً يحترق، علهم يتلقفون عبيرها  ذات ربيع، أو أن يشدهم الرحيل إليّ بالأسئلة، عندها ستكون الإجابة مرسومة في سطور كلماتي، عندها ستكون القارورة قد نجحت في الوصول إلى أمواج مشاعرهم وتدفقها.
سلب مني روحي وبهجة حياتي، وجعلني جثة حية تتحرك باحثة عن قبرٍ ترقد فيه، علها ترتاح.
وقف ثلاثتهم صفاً مُتحداً، وأعرف تماماً رغبتهم، أليسوا أصغر من إقحامهم في قصة خلافاتنا؟
توسلوني حلاً وأبكوني البقاء، ثم استداروا باكيين وهربوا معاً صوب غرفهم، كان زياد آخرهم وهو صغيرا جداً على اتخاذ أي قرار، ولكنه صديق مرح، يتبعها ويقلدها أينما ذهبت، لذا وجدته يركض وهو ينظر خلفه.
من ثلاثتهم نظرت إلي مرح، متوسلة:
أبقي أو خذينا معك!
كان الخوف يسيطر عليهم جميعاً، كما هو مسيطر عليّ، نعم لقد استطاع أن يجعلنا مرتعبين، فيالزهوته وشيم رجولته التي حطمتنا!
ظلت أمي طوال الوقت ساكتة، وآثرت أن تكتم دمعتها هي أيضاً، قبيل أن نخرج، نظرت إليه لمرة أخيرة تستعطفه إيماناً وحناناً، لكنه أزاح عنا بوجهه يطردنا، تيقنت تماماً أنه لن يتراجع قيد أنملة وأن هذه الوقفة هي الأخيرة لنا معاً، قبيل أن نكون طرفي قضية أمام المحاكم.
خلال الأسبوع التالي لعب الأصدقاء بآخر أوراق التراضي، لكنه رفض كل المبادرات، رفض الطلاق، النفقة، أن أتواصل مع أطفالي، يعلم تماماً أنه يمسك بشرايين حياتي من خلالهم، ويستغلهم إلى أبعد حد.
-35-
أمام احتدام الخلاف ورفضه لأية مبادرة، وجدت أن أعود للقضاء لتكون له الكلمة الفيصل، وفي ذلك رفعت دعوى طلاق بتاريخ الرابع عشر من  يوليو من العام 1999، لخصت وقائعها:
"خرجت من بيت زوجي، إثر قيامه بضربي وطردي في ساعة متأخرة من الليل، ومحاولته خنقي، وتهجمه عليّ بالسكين، وتهديده لحياتي "
أكد المحامي أني سأستخلص منه كامل حقوقي، ونصحني برفع دعوة شروع بالقتل أمام القضاء الجزائي، ويوم تمت مواجهته بالدعوة أنكر ما جاء فيها.
وفي ذلك تم احضار تقرير المشفى، وضبط الشرطة، حتى أقر بالذنب، لكنه بدأ يكيل لي اتهامات ملفقة، يبدو أن محاميه قد علمه بعضاً من أساليب التجاوز لتبرير فعلته.
الكثيرون، وجهلاً بالثقافة وأمية المعلومة، يجدون دائماً مبررات لنشوذهم، ويلقونها على الآخرين إمعاناً في النفاق، لا نزال نسمع من يتوجه باتهام باطل وافتراء كاذب إلى هذا الدين العظيم من خلال آيات قرآنه الكريم، بدعوى أنه يسمح للزوج بأن يضرب زوجته ويهينها ((واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً)) ونسي أن العقاب هنا خاص بالزوجة الناشز التي لا يجدي معها وعظ ولا هجر ولا أي عقاب معنوي، عندئذ يسمح للزوج بأن يؤدب زوجته بالضرب، ضرب تأديب، لا ضرب تعذيب، ويشترط في هذه الحالة أن يكون الضرب غير شديد ولا شاق، ولم يرد في الشريعة الإسلامية ضربهن إلا في تلك الحالة، أي حالة الانحراف في سلوك الزوجة والشذوذ في بيت الزوجية.
-35-
كم كنت أكره نفسي وأنا أتوجه إلى المحكمة كل فترة، وكم كنت سعيدة حينما أتذكر أني أخوض حرباً لاستعادة أطفالي، وحياتي معهم.
كنت أعد الأيام التي لم ألتق فيها بهم، وكانت قد وصلت إلى التسعين بالضبط، عادت المدارس تفتح أبوابها ففرحت جداً، ورتبت فكرة زيارتهم.
كان وقتي موزعاً بين زيارتهم في المدرسة، وجلسات المحكمة.
مضت أربعة أشهر دون تحقيق أي تقدم، جاءت العطلة الانتصافية، وهذا يعني أني سأنقطع لشهر تقريباً عن رؤية أطفالي، لذا ارتأيت أن أحاول ترميم ذاكرتي، فأعود  لمرسمي الذي أهملته، وإلى عائلتي الأخرى الذين يشاركونني همومي، مع أنه لم يكن باستطاعة أحد منهم عمل أي شيء، فيكفيني الدعم المعنوي الذي تلقيته باتصالاتهم المتكررة، وخاصة والدي الذي كان أكثرهم تأثراً، فعلى الرغم من كل شيء كنت أحبه أكثر.
أخبرتني رنا أن والدها بدأ مؤخراً يشك في لقائهم بي، لذا وجدت أن أغير تاريخ الزيارة، فآثرت أن أزورهم قبل موعد جلسة المحكمة، فهو سيكون منشغلاً، لكن وكما العادة وصله الخبر، وتبين ذلك من خلال زيارتي الأخيرة، حيث كان قد زار المدرسة، مهدداً بنقل الأطفال إن عادوا وسمحوا لي بالزيارة.
وفي زيارتي هذه أرسلت المديرة تطلب رنا أكثر من مرة، حتى جاءت مرتعبة وعلى وجهها آثارٌ، لقد جعلها تدفع ثمن لقائها بأمها إذاً!
بقيت لدقائق، لتذهب مودعة بعبارات الحب واليأس.
جرت المناقشات لمحاولة الإصلاح فيما بيننا من قبل رئيس المحكمة الناظرة في القضية: 
أنا مستعدة للعودة إلى بيت الزوجية شريطة أن ينفق على البيت، وأن يسمح لي بالسفر إلى أهلي واستقبالهم، وإن تزوج من ثانية فلن أمانع شريطة أن لايسكنها في منزلي.
وكما توقعت، فقد رفض المصالحة من أساسها، وأصر على متابعة الدعوة، معتبراً أنه سيجبرني على العودة إلى بيت الطاعة عنوة.
وهكذا لم يتم الصلح بيننا، فقررت المحكمة بعث حكمين من قبلها:
المحكمة ستفرق بينكما، حيث أن العشرة أصبحت مستحيلة.
وكان يجب أن أتنازل عن مؤخر المهر، لأني من تطلب الطلاق، وجاء منطوق الحكم في الدعوى: 
(حكمت المحكمة بتطليق المدعية من المدعى عليه طلقة بائنة بينونة صغرى مقابل تنازل المدعية عن مؤخر مهرها).
هذا الرجل منذ اللحظة لم يعد زوجي، قرأت غيظه من نجاحي في التحرر منه، حيث كان يرغب في مزيد من الابتزاز، بل كان يعتقد لهوس خياله أنه سيلزمني بالعودة إليه صاغرة.
خرج من القاعة وهو يوبخ محاميه، وقبل ذلك رماني بعباراته الأخيرة:
مبروك الطلاق مبدئياً، ولكن سأستأنف، حتى تركعي لي.
أمن العدل أن يوضع في يد الرجل سيف الطلاق، يسلطه على عنق المرأة متى شاء؟! فإذا أكل قلبها البغض لزوجها والنفور منه، فرض عليها أن تعاشره كرهاً، فإن أبت دُعيت إلى بيت الطاعة، كأنها متهم يقاد إلى قفص، أو مجرم يساق إلى سجن، فأين التوازن بين الحقوق والواجبات؟ 
الزوجة عادة تكون أكثر صبراً وأطول بالاً، حتى ولو بدأت فكرة الطلاق تداعب خيالها، إلا أنها بحكم ظروفها تظل صابرة، متأنية، وفي الغالب ترضى بحكم القدر، مستسلمة، والقليل من يتمردن على ذلك بدعوى الطلاق، وأنا لم أطلبه تمرداً أو مللاً أو كرهاً، ولا بسبب امتناعه عن الإنفاق أو ضربه، فالضرب قسوته أهون من تحطيم الأسرة وتشتيت أفرادها. ولكن اتهامه لي كان فظيعاً، أفقدني جزءاً من كرامتي. كان عليّ أن أوفر الأسباب المقنعة للقاضي حتى يحكم بالطلاق.
إن الزواج عهد متين، وميثاق غليظ، ربط الله به المرأة والرجل. أصبح كلاهما زوجاً بعد أن كان فرداً. رباط أقامه الله على ركائز من المودة والرحمة، اللتين تحملهما كل النصوص الشرعية. فأين الرحمة في قلب ذلك الرجل؟!
-36-
رفعت دعوى "حضانة وسكن ونفقة"، وعلى الرغم من ضآلة الأمل فيها، وجدت أن اجتهد في الوقت الحاضر بأقصى طاقتي، دون القلق فيما سيأتي، فقد شرح لي المحامي أنه في حال وجود خلاف بين الزوجين فإن الحضانة تكون لمن بيده الأبناء، ولا يحق للطرف الآخر رؤيتهم خلال هذه الفترة، إلا بعد صدور حكم نهائي، وقد يستغرق من ست إلى ثماني شهور، لذا يلجأ المحامون –عادة- إلى الدفاع عن الأزواج، لتعطيل الدعوة أو تأخير صدور الحكم.
أرسلت لي المحكمة لائحة استئناف دعوة الطلاق، وكان قد رفعها متلمساً إلغاء الحكم، وإلزامي بالرسوم والمصاريف وأتعاب المحامي، لم أستغرب الأمر مطلقاً، فهي وسيلة ضغط أخرى، وخوفاً من قيامه بسفر الأولاد خارج الإمارات، رفعت دعوة إراءة ومنع السفر، فجاءت نتيجتها لصالحي، وفي الثامن من نيسان أبلغت من المحكمة باستئناف دعوى (الطلاق)، فحضرت الجلسة وجاء منطوق الحكم بتعديل الحكم المستأنف وإضافة عبارة نفقة العدة على الفقرة الحكمية، بحيث يكون مقابل التنازل عن مؤخر المهر ونفقة العدة.
أما هو فلم يحضر،على رغم من أنه كان يعرف موعد الجلسة من الإعلان الذي رفض استلامه من المُبلغ. وهكذا صدر الحكم غيابياً.
بعد شهر تقريباً صدر حكم الإراءة لصالحي، بأن أراهم في الأسبوع يوماً واحداً.
 صحيح أنني كسبت الدعوة، ونلت حق حضانتهم، لكنه الوهم بعينه. فالأحكام الصادرة عن محاكم الإمارات تسري داخل الدولة فقط، ولا تنفذ خارجها. وكثير من الناس الذين يذهبون إلى المحاكم لا يعرفون بأي مذهب ستحكم المحكمة. ففي أبوظبي ودبي تكون الأحكام وفق المذهب المالكي، وبقية الإمارات وفق الحنبلي. وللقضاة مذاهب مختلفة في الأحكام. ومثالاً على ذلك قضية انتهاء سن الحضانة، وإلى أي سن يبقى الطفل مع أمه في حال انفصال الأبوين؟ فالمذهب المالكي يرى أن البنت تبقى إلى أن تتزوج، والولد إلى أن يبلغ. أما الشافعي فيقول أن يبقى الذكر والأنثى مع الأم حتى بلوغهما سن التمييز. وما هي هذه السن؟ هل هي 7 أو 8 سنوات؟ وقالت بعض الآراء أن يبقى الطفل في الليل مع الأب، وخلال النهار مع الأم، أما الحنبلي فيبقي البنت حتى 7 سنوات، وإذا بلغ الولد 7 سنوات يُخيّر بين أبويه، ويختار أحدهما. ويبقى في المذهب الحنفي حتى 9 سنوات أو 7 سنوات، أو حتى مرحلة البلوغ. وأن القانون سيأخذ من بين كل هذه الآراء بصورة لا تخالف الشريعة. ففي الشارقة مثلاً يأخذون بالمذهب الحنفي، فإذا بلغ أولاد المطلقة سن الثامنة ورفع الأب دعوة لإنهاء حضانة الأم، وضمهم إليه، يحكمون لصالح الرجل. وكم تعاني المرأة الإماراتية نتيجة لغياب قانون الأحوال الشخصية، خاصة في قضايا الطلاق، التي يختلف الحكم فيها من إمارة إلى إمارة أخرى. ‍‍‍‍‍‍‍‍‍لذلك ينبغي أن يكون قانون الأحوال الشخصية واعياً لحقوق المرأة، ويضع سداً بينها وبين التلاعب بها، أو الالتفاف حوله. هنالك كل يوم عشرات القضايا لنساء يتألمن ويتحدثن عن ظلم صارخ، فهذا القاضي أو ذاك يطبق رأياً خاصاً به من هذا الفقه، بينما هناك رأي آخر قد ينصف المرأة أكثر. إن الفقه الإسلامي يحمي المرأة وحدها وليس الرجل في قضايا الزواج والطلاق لأن الرجل محمي أصلاً بالذكورة، والذكورة قوة في مجتمعاتنا.
-37-
غداً الجمعة، فبعد عام من حربي ضده، وبحكم القانون، تمكنت اكتساب يوم من كل أسبوع لرؤية أطفالي، غادرت إلى الشارقة مع روان، الذي ظل برفقتي طيلة أيامي السابقة، وقفت أمام مدخل البناية، وضغطت زر الإنترفون، ليأتيني صوت رنا، التي ما إن عرفتني حتى صمتت، فتوجهت إلى الباب أطرقه، فإذ به يقف قبالتي وهو في حالة هيجان، هو اليوم أكثر من مهزوم.
طلبت من الأطفال الاستعداد للمغادرة معي، وبدا أنه قد أخفى عنهم خبر ربحي لدعوة الحضانة، بل وأرسل زياد إلى بيت عمه، متجاهلاً قرار المحكمة ومعتبراً نفسه السلطة، فكان لا بد لي إلا أن أعيد على مسامعه وجوب تنفيذ الإراءة.
انتظرت مدة فلم يكثرت، لذا لجأت إلى الشرطة ليتصل الضابط به، طالباً حضوره، وعندما عدت مجدداً لاصطحابهم، حاول استفزاز أخي لافتعال عراك يحول النظر عن سبب قدومنا، لكن أخي كان أكثر حكمة، وهدأ مبتعداً، وعلى قرقعات صوته تدخل الجيران، وهم مشمئزون من مشاكله مثلنا، لتأتي الشرطة فيتحول هياجه إلى هدوء، فيما بقينا عالقين في مدخل البناية، وهو يصر على عدم السماح لنا بالدخول، ويهدد رنا على مرأى ومسمع من رجال الشرطة، فإذ به يدخل الدار تاركاً جميعنا خلفه، وما هي إلا عشر دقائق ليفتح الباب وتأتي رنا رافضة الذهاب معي، فمن المؤكد أنه عاد يهددها، ويخيفها. لم يكن لي في الأمر حيلة، فحتى الشرطة لم تستطع أن تفعل شيئاً. رجعت إلى القسم وقدمت بلاغاً للنيابة العامة، فصدر الحكم عليه بالحبس شهراً، ولأني لم أكن أرغب في تأزم الموقف أكثر، وخشية من أن يصبح أطفالي بلا أب أيضاً، تنازلت عن الدعوة.
-38-
التاريخ هو  السبت 13/ 5 / 2000م. زرت رنا في مدرستها، كان أول أيام امتحاناتها، أعطتني رسالة وقطعة نقود ورقية كتبت عليها: أحبك يا أمي. لم أكن أعرف أنه اللقاء الأخير، وأذكر أنني رأيت زياد آخر مرة في17/4/2000، أما مرح فكان لقائي الأخير بها يوم الجمعة 12/5/2000، خلال لقائي برنا وضعت رسالة في حقيبتي:
"أردت الذهاب معك، ولكنه هدننا بأننا سنعود إليه أخيراً، وأنه سيمنعنا عن المدرسة، وعن النوم في غرفنا أو أن نكون معاً. لقد كانت ملامحه قاسية جداً، لقد أخافني ومرح، معتبراً أن ذهابنا معك يعني نهاية علاقته بنا كأب، وأنه سيعاملنا كخدم، لم يخبرنا شيئاً عن الحضانة، كرر أنك من تركتنا لأجل مصالحك، وأنه الأب المحب لنا."
بقيت لشهر حبيسة البيت في منزل أخي، أنتظر الحكم النهائي في قضيتي، متأملة نهاية سعيدة لها، وكثيراً ما كنت أحدّث قطته، فأسرد لها أيامي القاسية، وواقعي المؤلم. فكرت بالسفر إلى سورية بعدما فشلت في توفير أي لقاء مع أطفالي، فاتصلت برنا، أطلب منها السفر معي، فردت برسالة مقتضبة:
"أمي الغالية، أكتب إليك رسالتي وأنا أعيش أشواقك، وحالة صعبة من المشاعر المتداخلة، لا أستطيع تحمل كل هذه الأحداث، أصبحت أكره كل شيء حولي.
ستسافرين بعيداً، فيما كلنا –هنا- ينتظر لحظة أن تكوني معنا، أموت غيظاً من فشلك في الوصول إلى صيغة مريحة لك، استمتعي بحياتك، وكفي عن البكاء، فهذا قدرنا وقدرك، سأرتب أن نتواصل بشكل دائم، ويوماً ما سنكون معاً ونعيش السعادة، وسأقدم لك هذه الهدية البسيطة، ولكنها أجمل لعبة بالنسبة لي، لأنها ترتدي ملابس قمت بخياطتها بنفسي."
ولاحقاً جائتني منها رسالة أخرى:
"السؤال الأول: لماذا قررت البقاء مع أبيك ولم تغادري مع أمك؟ لا أعلم، قد يكون السبب مرتبط بالتعود على المكان، والمنزل، أو بالخوف. لا أستطيع إيجاد إجابة مناسبة.
السؤال الثاني: هل أخبرك أحد بألاّ تذهبي مع أمك؟
لا أسمح لأحد بإملاء رغباته علي، ولكن لسنا قادرين دائماً على اتخاذ القرارات الصحيحة.
السؤال الثالث: كيف ستتصلي بأمك؟ وكيف نلتقي لاحقاً؟
من خلال صديقتي، أو من أي وسيلة تقع تحت يدي وتواصلنا هاتفياً سيسهل ذلك، وعندما أكبر سأدرس المحاماة وأعيد لأمي كامل حقوقها، وأشتري منزلاً نعيش فيه معاً.
السؤال الرابع: لماذا قطعت حديثك في آخر مكالمة باكية، وأقفلت الخط؟
كنت سأقول بأني سوف أبقى معه، أنمي كرهي نحوه كل يوم ليكبر، حتى يأتي زمن أحاسبه على كل جرائمه بحقك وحقنا.
انتهت الأسئلة – أحبك أمي."
-39-
انتهت مدة إقامتي في الإمارات، وعدت إلى دمشق بانكسار مجدد ويأس كثير، كان عليّ أن أواجه المجتمع، وأنا أحمل لقب مطلقة، فلم أستطع الانتظار حتى صدور الحكم النهائي في قضيتي، وكان أن يحضر والدي جلساتها بحكم وجوده هناك، وجاء منطوق الحكم بقضية الاستئناف (بالرؤية) الصادر يوم الاثنين، الموافق27/11/2000، بإلزامه بتوفير رؤيتي للأطفال يوماً من كل أسبوع.
أما الحكم بقضية الاستئناف (الحضانة) فقد صدر يوم الإثنين الموافق18/12/2000.
كان هذا انتصاراً حقيقياً لإرادتي، ولكن -وباعتبار أن وكيلي (والدي) حضر الجلسة نيابة عني، وأقر أمام القاضي بسفري خارج الدولة، ولأن السفر يسقط الحضانة- فقد بادر محاميه إلى رفع دعوة (إسقاط الحضانة)، مستنداً في ذلك على ما جاء في كتاب (تبين المسالك):
"إذا أرادت المطلقة أن تخرج بولدها من المقر إلى مقر أخر فليس لها، إلا إذا كان بين المقرين قريب، بحيث يمكن للأب أن يبصر ولده ثم يرجع نهاره. وسفر المستأنف ضدها يسقط حضانتها."
ولا سيما أنه ثبت بأقوال الوكيل. لذلك جاء منطوق الحكم:
"إلغاء حكم المستأنف لبطلانه، والحكم برد الدعوى بالحضانة لسفر الأم."
أهو القدر أم إرادة والدي؟ كانت الفرصة تقربني منهم لأمتار، فابتعد مجدداً آلاف الأميال. قد حكم القانون لي، فلماذا أبطله والدي بقرار تسفيري؟ كان بإمكاني أن أكون هناك خلال ساعات لأتابع قضيتني، فأبعدني مرة أخرى عنهم، أما ستنتهي تجاربه عليّ، لم علينا أن نكرر أخطاءنا ونلوكها، طالما أنه توجد أخطاء جديدة يمكننا ارتكابها، قد كنت خطأةً في تاريخ العائلة، وتراكم بناؤها علي، أريد أن تتوقف هذه الدوامة، فقد تعبت.
-40-
19/ 11 / 2001  
ثلاث عشرة سنة بعد الزواج ـ سنتان بعد الطلاق ـ صورة عن قيد مدني باسم طليقي من دائرة النفوس المختصة، النتيجة: أعزب.
أرسلت خطاباً لصديقة مصرية "وفاء"، هي في الوقت نفسه أم لإحدى صديقات رنا ومعلمتها، لأحصل عن طريقها عن أخبارهم، فهم يترددون على بيتها كل فترة:
الغالية وفاء، أنت الوحيدة التي أرجو المساعدة منها في التواصل بيني وبين أولادي. فوجعي صعب جداً، وافتراقنا يشلني عن متابعة الحياة.
وتمكنت عن طريقها من بناء التواصل مع أولادي وخاصة رنا، حيث كنت أكلمها في أوقات محددة من كل شهر: اليوم الثالث من كل شهر، الأعياد وخاصةً أعياد ميلادهم، آخر هاتف بيننا كان قبل عيد الفطر بأيام، كانون الثاني ـ 2001. كانت رنا سعيدةً بقدوم العيد، حتى أنها أخذت تحدثني عن استعدادها لاستقباله، وكانت فرحةً لسماع صوتي، وحدثتني عن معاناتهم لغيابي.
وبعدها تغيرت الأمور، لتصبح أكثر سوءاً فلم تعد تتصل، أو ترد على مكالماتي، وكثيراً ما كانت تقفل السماعة بعبارات مبهمة محملة بالعتاب. مؤكد أنه قد تم تلقينها لذلك رحت أضع لها المبررات المختلفة. وأحياناً كانت ترد بأن الرقم خاطئ. وعندما تكرر تصرفها، صرت على يقين أن في الأمر شيئاً ما، يدفعها مرغمة إلى هذا السلوك.
أرسلت أكثر من رسالة بريدية إلى عنوانها دون رد، اتصلت بوفاء مجدداً لكن لم أحظ بمكالمتها، فتركت لها رسالة صوتية لتتصل بي، فلم ترد، اتصلت مرة أخرى، فردت امرأة أخرى بلهجة مصرية:
وفاء مش هنا يابنتي، ربنا يكون في عونك، بس والنبي ده إحنا خايفين من باباهم، يعملنا مشكلة، وبقلنا مده ماشفنهمش، وماجوش عندنا.
رحت أطرق باب صديقتي الأخرى"لينا"، كتبت رسالة قصيرة، رجوتها فيها أن تتصل بابنتي رنا وتسلمها رسالتي، وفي حال صدها وعدم تجاوبها رجوتها بأن تلجأ إلى أم نغم. جاءني الرد بأن ابنتي قد امتنعت عن متابعة الكلام معها عندما وصلت بالحديث عني حيث أغلقت سماعة الهاتف من فورها. عندها لجأت إلى الصديقة أم نغم:
رنا تخاف كثيراً من والدها، بعد أن اكتشف أنها تتحدث معك، فحبسها في الحمام لأيام، وعاقب إخوتها، وهو في أغلب الأوقات يكون بجانبهم.
وكلمتني أم نغم عن الحال السيئة التي وصلتها رنا جراء ذلك، ونصحتني بالركون لأيام ريثما تتصرف هي، وبعد أيام تلقيت اتصالاً منها تبلغني بأن أحدث ابنتي، كانت قاسية جداً في حديثها، ترد باقتضاب، رفضت حتى أن تسمع صوتي بداية، وراحت تبكي، كنت أسمع نحيبها على الطرف الأخر من الخط، وكنت أسمع أيضاً توسلات نغم وأمها في محاولة إقناعها بالحديث إلي. ولكنها كانت عنيدة إلى حد التشنج.
جاء اليوم الثالث من بداية الشهر، وهذا موعدنا الذي ما أزال ملتزمةً به. كنت أريد أن أبلغها برغبتي بالسفر إليها بعدما حدث، وأنا مشتاقة جداً لرؤيتهم. ولكنها صدتني وأبدت عدم رغبتها بالتواصل معي.
لم أتحمل وقع ذلك، وحين سافرت أمي إلى الإمارات في زيارة لأخوتي، حملتها رسالة إليها مجدداً: 
حبيبتي رنا، ينتابني إحساس بالمرارة والحزن عندما تغلقين سماعة الهاتف في وجهي، فأستسلم لليأس والألم، فتأكلني الحيرة و الندم، إن كانت هذه رغبتك فعلاً فأنا سأحترم ذلك وأبتعد حتى  بصوتي عنك، أما إذا كان تصرفك هذا تلبيةً لرغبته فسوف ألاحقك أينما ذهبت، وسيتبعك صوتي وإحساسي ولوعة قلبي واشتياقي مهما كان الثمن، أريدك أن تكوني حرة صادقة وصريحة معي بمشاعرك لأبعد الحدود. لا تخافي من شيء فأنت تتحدثين إلى أمك. قولي لي ماذا تريدين، لك حق عليّ أن تطلبي أي شيء في الحياة، ومن حقي عليك أن تكوني صريحةً. لذا أرجو الإجابة حتى لو كانت تلك الإجابة قاسية، فالدم ذاته يجري في عروقنا. لا تصدقي يوماً أن هناك أماً لا تحب أبناءها. العلاقة الدموية لا يفرقها الأشخاص أو الظروف أو حتى المسافات.
ما أردته من رسالتي هذه هو خيط تواصل ليس أكثر، لأستمد منه حياتي ليوم آخر.
بقيت أمي هناك فترة الشهرين، وكلما اتصلت بها كانت تتهرب، وحينما عادت أخبرتني أن مديرة المدرسة لم تقبل طلبها بلقاء رنا بداية، فوالدها كان قد أعطى تنبيهات صارمة في ذلك، وتحت رجائها أرسلت بطلب الطفلة. وفوجئت رنا بوجود جدتها، ورفضت البقاء. وبعد توسلات من الجدة وتدخل من المديرة اقتنعت الطفلة ولو على مضض، وبقيت لدقائق. حزنت أمي كثيراً لهذا الموقف، فرنا خائفة. وهذا واضح من الرعب الذي في عينيها.
أمك بعثت لك برسالة.
مدت يدها وخطفت الرسالة وراحت تركض مسرعة مغادرة الغرفة.
ظلت أمي لأيام طريحة الفراش، وبعد أسبوع قامت بمحاولة أخرى، فذهبت إلى البيت هذه المرة، ولكن الطفلة رفضت أن تفتح لها الباب مع كل التوسلات، وبهذا فشلت محاولة أخرى لي بثقب ثغرة في جدار الفصل ذاك، لأفكر بوسيلة أخرى لاستعادة حياتي. وفي عام 2002 حملني شوقي، مجدداً، إليهم في رحلة عذاب أخرى، وكان دربي المكرر هو مدارسهم، فيما كانت  العزيزة" لينا" دليلي، مرح كانت في الصف الثالث فيما زياد في الثاني، كانت مديرة المدرسة أم فاضلة، طيبة القلب، بذلت في سبيلي كثيراً من الجهد والوفاء، منتحتي صورهم الجامعة وزملائهم لجميع مراحل الدراسة، هي ذاتها الصور التي أعيشها اليوم بهم، لم أشأ المغادرة دون أن ألتقيهم، رغم القوانين كان أن تنكرت بزي إماراتي مع عباءة ونقاب، وأخذت دور الموجهة التي ترغب في التعرف بالطلاب، جاؤوا جميعاً وأخذوا يسلمون، الجميع مر بالسلام عليّ، إلا مرح كررت سلامها  لمرة ثانية، وهي تتأملني بشكل غريب، لقد تعرفت على أمها وها هي تطلب الجلوس في حضني، وانهالت عليّ تقبلني. بكى الجميع، ودموعهم تسيل روافد في مشاعري.
المحاولة الأخيرة، التي أستطيع كتابتها، كانت عام 2004، حينها سافرت أختي إلى الإمارات، لتلتقي برنا ومرح في مدخل العمارة، ارتعبت رنا وأصفر وجهها، فيما ركضت مرح مسرعة وهي تحتضن خالتها، وتسأل عني، هدئتها أختي، مستسمحة الصعود لمقابلة والدهما، الذي نكزها وطردها من المنزل دون أدنى اعتبار.
-40-
واليوم أجلس وحيدة، في مرسمي الكئيب تحيطني الكثير من رسومات الأصدقاء، أو الفنانين العالميين، وأحيط بالكثير من اللوحات التي أنهيت معركتي عليها، أجلس والذكريات تلتهمني وتكررها ألفاً، قد غادر الجميع كل إلى أعمالهم وحياتهم، ونسوَا شيئاً اسمه غادة، ومأساتها، الذي كتب أن الزمن قادر على شفاء جروحنا أخطأ، فجروح الروح لا سبيل إلى شفائها، بل يزداد وقعها مع مروره.
كثيراً ما أسافر في لوحاتي، فأجوب تفاصيلها في رحلة لا أرغب في نهايتها، لعلي بذلك أحاول بناء عالم ثان يكون أكثر أمناً، ولكن سرعان ما أغفو لأجدني في ذات الدوامة، وليأتيني صدى بعيد: أين تغادرين، ولمن ستتركين كل هذا الألم المصبوغ بطعم الحرمان؟
-1-
تأخر الوقت، وأنا أسير في شوارع دمشق وحيدة مع ذكرياتي، التي بالكاد أستطيع الاحتفاظ بها، فهي بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً، لتتحول إلى رماد يتناثر حولي،  حالما أصلُ المنزل سأحول النوم عله يجدني هذا المساء.
لا أحدَ في المَنزل, سأبحث عن مكان لأريح فيه نَفسي، ولكن تُرى أين يكونون؟ فالوقتُ يُقاربُ الثالثةَ صَباحاً...أمرٌ حَرك فضولي، لكن الإعياء كان أكثر سطوة، فاستلقيتُ, وأخذت نفساً عميقاً.
سَأحاولُ أن أُغمضَ عَينَيَّ، عَلَني أتمكنُ منَ النوم، لكني مضطربة، وشعور مختلف يَسبَحُ في كياني.
الأنوارُ مُضاءةٌ, وهُنالكَ فوضى غريبة في المَكان! مُجدداً أحاولُ النومَ، لكن عبثاً.
نهضت أتَجولُ في أركانِ المنزلِ، ثيابٌ ملقاةٌ على الأرض, وأغراضٌ مرمية، وكأنهما قد غادرا على عجل. ازدادَ اضطرابي أكثر, ورُحتُ أفكر:
تُرى أين يُمكنُ أن يكونا قد ذهبا؟ أيمكن أن يكونَ أحدٌ ما مِن عائلتنا قد أصابه مكروه؟ أو قد يكون أحدٌ من الجيران؟ لا. لا. لا يُمكن! بلا يمكن. 
ولكن، يجب أن يكون هُنالك شيء ما يُفَسِرُ الأمر، جلست انتظر تغييراً، وازدادَ اضطرابي أكثر, وأنا جالسة وحيدة في منزلي البائِس. انتظرُ أحداً يُخبرني بما يحدث, فكري مُشَتَتٌ في غياهبِ أحداثِ غريبةِ ألمت بيَّ اليومَ. لا أشعر بشيءٍ, لا أدري، لكن هناك أمور غريبة حدثت اليوم. نعم هنالك شيء ما.
الشمسُ قاربتْ على الشروق, والعصافيرُ ألمحُها تَهجُرُ أعشاشها، وتُغني ببدء الصباح, بدأتُ أُحسُ بحركةٍ قويةٍ وأصواتٍ متداخلةٍ, وسياراتٍ تُمزقُ صمتَ المكان. ليُفتَحُ البابُ، فتدخلَ نسوةٌ كُلهنّ سوادٌ, واتشاحٌ، وبكاء، وأمي. نعم إنها أمي التي تَتَوَسَطُهُم، مُنهكة ومنهارة. وجهُهَا مُمَزقٌ, وعيناها ممتلئتان بالدموع. لم يلاحظ أحد وجودي. اتجَهوا مُباشرةً إلى الداخل, وتتبعَ ذلك دخولُ حَشدٍ مِنَ الرجال، عائلتنا كلها مُجتمعةٌ, وبعض الأقرِباء والجيران, سِمَة الحزنُ مُرتَسمٌة على الوجوه، ماذا يحدث؟ لا أدري .
يَدخلُ رجالٌ، يحملونَ تابوتاً ملفوفاً بقماشٍ أسود، إذاً، أحدٌ ما من العائلة قد توفي. أبي معهم. الحمد لله, لكنهُ مُصفرُ الوجه, ومنهارٌ تماماً، أبي القاسي والصَلب، مُنهكٌ ومُنهار. إذا المتوفى قريبٌ جداً منا ليبكوه بهذا الشكل المريب والمُفجع, ولكن من يكون؟ فالجميع حاضر هنا، إخوتي كلهم حاضرون, ولكن السَطوةَ تَمُصُ أفئدتهم، التي ألاحظُ سيلانها، وتستمر أسئلتي، ولا أحد يجيب، أو ينتبه لوجودي معهم، انَحشرتُ بينهم، أحاولُ الاستيضاح, أبي تجاهلني وإخوتي كذلك. ما أحَسَ أحدٌ بوجودي، يبدو أن هَولَ المصيبةِ قد افقدهُم التركيز أو القدرة على التحدث.
أتَموا الطقوسَ، فيما أصواتُ البكاءِ والنحيبِ تتعالى أكثر، حَملوا الَنعشَ، وأخرجوه، وخرجتُ معهم، وأنا هائمةٌ. غريبةٌ. غريقةٌ، في هذا التلاطم الحزين. مَوكبٌ مُهيبٌ يَشقُ أزقةَ حينا النائم في هذا الصباحِ الجميل، لم يَبقَ أحدٌ إلا وحضرٌ هنا معنا، وأنا الحاضرة الغائبة. للحظة شَعَرتُ بِهَولُ الحقيقة، التي بت مُتَيَقناً من أنها قريبة جداً مني، لكني كنت ألهي نفسي وأبتعد. وأحسستُ فجأةً بصعقةٍ مختلفة من الألمِ تخترق روحي، عشرة أعوام مرت، وأنا أحاول أن أُلَملِمَ نثرات ذاتي التائهة في تَلاطُم ذلك الضياعِ، فلا أجد هدوءاً أو راحة بال. كنت بقايا شخص غادرته الحياة، هيكل ومجموعة عظام متكومة، تنتظر مصيرها، لا نزالُ نسيرُ ببطء حتى دخلنا مَعاً المقبرة, وهناك كانَ التلقين، سمعتُ أسماءً عدة وذُكِرَ من بينها اسمي؟ أأكون المتوفاة؟ لا، قد يكون تشابهُ أسماء‎، انتظرت حتى اُنزِلَ النعشُ, وشاركتُهم ذلك، كي ألهي نفسي، التي بدأتُ أحسُ بأنها تتسرب مني, اختفى إحساس الإرهاق والألم، الذي كنت أشعر. أتراني أعيش النهاية؟ نهايةٌ لا أدري كيف يمكنُ أن تكون, إنه واقع تَرَّسمتْ مَعالِمُه في رأسي، لكني أرفضُ تَقَبّلَهُ -رُغم أني كنتُ أسعى, أو قد سعيتُ إليه بنفسي- إنها الحياة, وإنها الرغبة الجامحة في البقاء, أو محاولة البقاء والاستمرار، رغم البؤس والغيظ الشديد, ورغم رحيل من كانت - بالنسبة ليّ - الحياةَ, يبقى دائماً طموحٌ لعينٌ مزروع في أنفسنا الخبيثة بالاستمرار, ومعاودة الغوص والبقاء, ولكن –هنا- بدأتُ أدركُ حقيقة أن كل ما يحدثُ أقربُ منيَّ إليّ ،غطيناهُ بالتراب, والدموعُ تبللُ المكانَ, وشبحُ الحُزنِ يُخَيمُ بِتَثاقلٍ كغيمةٍ ندية خصبة. إخوتي يَتَصارعون حول القبر، ويُبكونَهُ بِحُرقة، لكن لماذا أنا أيضاً لا أبكيه معهم؟ أبي. إنه هناك، وقد فقد القدرةَ على الوقوف، فجلس بسلام وركون، أراهُ مُكتفٍ بالتأمل فيما الدموع تتكورُ في عينيهِ, وتكبرُ أكثر لتُمطِر شتاءً كاملاً.
انتهت المراسمُ تَماماً, والجميعُ يَهُمُ عائداً, وأنا -ودون أن أدري السبب- قد قررتُ البقاء والانتظار، ربما شعورٌ غريبٌ دفعني للبقاء كي أتفهمَ ما الذي يحدث.
تناقصَ العددُ تَدريجياً حتى بقيتُ وحيدة، والوقتُ يَمضي بِتثاقل أكبر. كان سكوناً مطلقاً, وهدوءاً موشحاً بالسوادِ الحالك, رُغم إن الشمس قد أشرقتْ تماماً شعرت بارتجافاتٍ قوية، وبردٍ شديد, وفجأة شُلت حركتي تَماماً، وضاقَ تَنَفُسي, وازدادت الرطوبةُ, والضيق من حولي، فقررت المغادرة، لكن عبثاً، فأنا الآن غير قادرة على الحركة.
-41-
عندما تعودون للبحث عني سوف تجدون هذه الرسالة في انتظاركم. كل ما أخشاه هو ألا أكون هنا –ساعتئذ- كي أفتح لكم الباب وأضمكم إلى صدري. فالموت عندما يأتي يكون غالباً على نحو مفاجئ، فهو موعد لا يؤجل أو يزول. ولهذا، فإنني أكتب لكم هذه الرسالة وأطويها في كتاب، عله يصلكم فتقرأونني، وتقرأون أنفسكم، ولكن تنبهوا جيداً إلى ما بين سطوره، وتوقفوا جزيلاً عند كل جملة، فهي عصارة ألم، وحبره من دواة شراييني.
 أرجو أن تقرأوها كلما شعرتم بالحاجة لأن أكون بجواركم. لا أريد أن أزعجكم. سوف أتحدث معكم بتلك الحميمية التي كانت تضمنا ذات يوم ثم فقدناها. عندما أنظر إلى صوركم أتذكر كيف كنت آخذكم إلى الفراش، أروي لكم حكاية ما قبل النوم. وعندما أنهض للذهاب معتقدة أنكم قد غفوتم يأتيني الصوت الرقيق النعسان كي أحكي حكاية أخرى، فأعود  وأوزع قبلاتي.
ما تزالون في رصيدي أطفالاً صغاراً كما تركتكم، فلا قدرة لي على عيشكم إلا كذلك.
رنا: كنت صديقتي، وعايشتي فصولاً من شتائي، كم حسدت نفسي على ابنة مثلك، لقد سرنا معاً حيثما كنا تائهين، وكنت أستدل بروحك البريئة، معاً حاولنا الخطو لدرب أفضل، وبك عشت ساعات حزني وأويقات فرحي.
مرح: في اللحظات المترنحة بين الصخب والهدوء أجدك حولي، تملئين حياتي بالكثير من الذكريات والأحلام وأظل أُحبك أكثرَ من ذي قبل، وأعيش شقاوتك، ونهمك للهداية التي اقتنيت لك منها الكثير.
زياد: لم تعش حنان الأم وبسمتها، وبالكاد تعرفني، ولكنك كنت غادة الرجل والانتظار.
وهكذا أكون قد أنبأتكم بكل ما أريد قوله، ولم يبق لي ما أقوله، وسوف أطوي هذه الرسالة الآن. وعلى أية حال، فإن كان هناك شخص في العالم يفكر بكم فهو أنا. أجل، وبكل صدق، أقولها: أحبكم بلا حدود، وأنتظركم حتى نهاية الحياة.
ومهما كان، سيبقى الوفاء، و ستبقون في سمائي، محتفظين بشذاكم وبريق العيون، ورغبة اللقاء، والمسافات الزمنية لن تغير ما أحببتهُ فيكم يوماً، ولن تغير عمق المأساة، لأننا معجونونَ من الألم، ومهما يكن، فالزمنُ صامت، ونحنُ من يكتبُ الكلمات.
والآن، أصغوا إلى همسة الله: ”أحبكم كما أنتم“ إنه الظلام هو أنا، هو أنتم، هو هويتي، هو هويتكم.
- انتهى –







البطلة غادة، العائلة حميد، الأبناء زياد، رنا، مرح....
الصديقة سعاد، الأخ أمين، الأخ روان، العم هشام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ماهو رأيك ؟

كتاب توثيقي عن انتفاضة 12 آذار 2004

كتاب توثيقي عن انتفاضة 12 آذار 2004 1 و 2